لا يريد الوالد عندنا أن يعترف عن عقيدة بأنه هو شيء وكل ابن من أبنائه شيء آخر، ولو كان ذلك صوابا، فلست أدري إذا لماذا يحصون السكان فردا فردا، ولا يحصونهم والدا والدا، وهيهات أن تطمس وجود ولدك إلى جانب وجودك، ثم يسلم الأمر بعد ذلك من النتائج أخطر النتائج.
فالولد الذي يبدأ هذه البداية البشعة، يريد أن يقرر ذاته حسب ما تملي عليه طبيعته وغرائزه، فيمحوه أبوه محوا كأنه ظل من ظلاله، تراه يكبر على أحد أمرين: فإما هو عبد ذليل لكل سلطان، أو هو ثائر ناقم على كل سلطان، وليست حياته في كلتا الحالتين بالحياة السوية الهادئة السعيدة.
إنه سرعان ما تنتقل سلطة الوالد إلى سلطة الحاكم أو سلطة المستعمر أو ما إليهما، وعندئذ يسهل على الحاكم أن يستبد ويطغى، أو يسهل على المستعمر أن يمرع ويمرح؛ لأن هذا أو ذلك سيجد نفسه إزاء أفراد نشأوا على طاعة عمياء، وهل تعجب بعد ذلك أن يضرب المثل في الطغيان بحكام الشرق، وألا يجد المستعمرون أيسر منالا من بلاد الشرق؟ إنهما وجهان لحقيقة واحدة: هي طغيان الوالد بأولاده وابتلاع أشخاصهم في شخصه.
لكن هذه الطاعة العمياء قد تنتج كذلك النفوس الثائرة المحطمة لكل سلطان، التي تهدم للهدم ذاته انتقاما لما أصابها أيام الطفولة، وإذا كثر أمثال هؤلاء تعذر السير الهين المطمئن على المجتمع بصفة عامة. وأذكر في هذا الصدد أني صادفت طالبا قاطعني أثناء المحاضرة ليعترض بما لم يكن له ارتباط قوي بما كنت أحاضر فيه، قاطعني ليبدي رأيا وهو يرتعش من الانفعال الذي لا موجب له، والرأي متعلق بالله ومدى علمه وقدرته، فأسكته في غير جواب، حتى إذا ما فرغت من المحاضرة، دعوته على انفراد لأسأله عن حاله في أسرته قبل أن أستعيده سؤاله، وسرعان ما علمت أن العلاقة بينه وبين أبيه توشك أن تكون هي العلاقة بين العدو وعدوه اللدود ... فثار الثائر على الأب الأصغر والأب الأكبر، وكل ما تشم فيه رائحة السلطان الأبوي بغير تمييز. •••
وبعد، فهذه خواطر في نوع واحد من أنواع العلاقة بين الناس عندنا، أثارتها في نفسي رسالة جاءتني منذ أيام قليلة من قارئة مثقفة تخرجت في الجامعة فيما أرجح، تقرؤها فترتسم أمامك صورة فتاة من مئات الضحايا، اللائي قد أرهف العلم فيهن الشعور وهذب منهن الحس، ثم عدن إلى الحياة ليجدن أنفسهن في مجتمع منزلي قاس خشن غليظ. ولست أدري لماذا اختارت هذه القارئة المجهولة أن تبعث برسالتها إلي؟ لعلها رجحت أن تجد في أذنا تصغي؛ لما يتسرب مني آنا بعد آن من أخبار طفولتي، وهأنذا أترك كثيرا من آلامها المبثوثة في خطابها، وأثبت هنا قليلا منها؛ ليرى القراء كيف تعيش هذه الفتاة المثقفة في دفع من المد والجزر. تقول: ... حينما علمت أن أبي يتهمني بضعف الشخصية وانعدام الإرادة، جثمت على صدري سنوات حياتي الماضية بثقلها فحطمت روحي، لقد لاحظ أبي أخيرا هذا الضعف في شخصيتي وهو في ذلك يلقي التبعة علي! إن مرحلة طفولتي وطفولة إخوتي جميعا لتتراءى أمام عيني الآن بكل أحداثها ... ولكن ماذا أقول؟ ألم تكن كل هذه الأحداث كفيلة بأن تنتهي بي إلى هذه النهاية؟!
لكني مع ذلك قد حاولت يوما أن أتناسى تلك الأيام وأن أبني حياتي من جديد، حاولت أن أتشجع وأكون لنفسي شخصيتي، وقد كنت صادقة قوية الإيمان فيما عزمت عليه، لكنهم لم يتركوني، فقد سدوا أمامي جميع الطرق حتى انهزمت أمامهم، لماذا ينسى أبي كل ما فعل بنا؟ لماذا؟ إنه لا يذكر إلا أنه يجب أن نكون على ما يشتهي ولو كان ذلك هو المستحيل ...
والآن قد ذهبت آمالي وأحلامي، لقد فقدت كل شيء، لقد فقدت الرغبة في الحياة، لم يعد لي أمل ولا هدف، ولم أعد أسعى وراء غاية، كل ما أشعر به هو خواء وركود تام. إن شيئا لم يعد يستثير اهتمامي، حتى كتبي وموسيقاي يا سيدي لم أعد أشعر بالرغبة فيهما، إن حالتي أقرب ما تكون إلى الموت، إنني أسير بل أتعثر في ظلام، لا أعرف لنفسي طريقا في الحياة، لقد سئمت كل شيء، بل وسئمت نفسي ...
ليتنا - يا فتاتي - نسترشد بحكمة القنفذ العاقل حين توجه بالنصيحة لزملائه القنافذ، وهي أن نحسب على وجه الدقة كم تكون المسافة بيننا وبين سوانا من الأهل والأصدقاء، بحيث لا نحرم من دفء العواطف الإنسانية في صلاتنا بهؤلاء وهؤلاء، وبحيث ننجو في الوقت نفسه من وخز الإبر.
سيئات الموتى
يقول شكسبير في رواية «يوليوس قيصر»، والقول هنالك يجري على لسان أنطون، في الخطبة المشهورة التي ألقاها عند جثمان قيصر:
অজানা পৃষ্ঠা