لكن الأفراد لا يكونون «هكذا دائما» إلا إذا غضضنا النظر عن مميزاتهم الفردية التي تجعل زيدا غير عمرو، فالمحب الذي يحسب أن أحلامه الساحرة لم تخطر قط على قلب، ليس مخطئا في حسابه، وإنما أخطأ الحساب من ظن أن كل العاشقين سواء، بل أخطأ من ظن أن العاشق الواحد شبيه بنفسه في كل حالاته، ولو كان العاشقون كلهم سواء لكفانا تعريفهم بأرقامهم كما تعرف إدارة الجيش جنودها، أو وزارة المعارف المصرية تلاميذها.
إنه يستحيل علينا أن نفهم معنى الحرية التي نطالب بها جاهدين، ما لم يتقرر في أذهاننا أولا أن الأفراد تفصلهم فواصل، فلكل منهم شخصه وكيانه، وإذا كانت الحرية المنشودة معنى مجردا، فقد كان حسبنا منها أن تسجل في الكتب والقواميس، وكفى الله المؤمنين شر القتال، لكنها حرية منشودة لأفراد، منشودة لزيد وعمرو وفاطمة، ولن يحاسب الله عباده «بالجملة» على اعتبارهم جميعا «هكذا دائما» بل سيحاسبهم الله فردا فردا؛ لأن لكل فرد قائمة من أعمال وأقوال تفرد بها - وهي نفسها عمل الأديب.
وقصة «الوعاء المرمري» زاخرة بأشخاص، تبينت في بعضهم الملامح الفردية وغمضت هذه الملامح في بعضهم الآخر، فالحمد لله الذي جعل أستاذنا فريد يتسامح في تطبيق مبدئه الذي يمحو الأفراد في غمرة الزمان، فيخرج لنا أشخاصا برزت فيهم الملامح والسمات، فجاءت كسبا للفن بل كسبا للحياة ذاتها؛ لأنها تضيف إلى الأحياء أفرادا آخرين يضمن لهم التسجيل الأدبي طول البقاء.
لقد أفلتت من أديبنا الفاضل عبارة وقفت عندها لحظة متمنيا أن تكون هي مبدأه في التصوير الفني لأشخاصه، وذلك حين يروي عن «خيلاء» أحلامها وهي «تنظر إلى الأغصان تتأملها كيف تتداخل، وكيف تتعانق، وإلى أشكال أوراقها وصور ثمارها، كان بعضها منسرحا لينا غضا وبعضها معقدا جافا وبعضها يمتد بظله الوارف وبعضها يسمو بجذعه الفارع، حتى الأشجار لا يشبه بعضها بعضا، وحتى الغصون لا تتساوى في هيئتها وإن كانت فروع شجرة واحدة ...» - فهكذا يختلف الأحياء.
ومن الأشخاص الأحياء الذين خلقهم أستاذنا خلق فنان قدير، «أبو العيوق» - ربان السفينة - ففي صفحات قلائل أتم له الأديب خلقته الكاملة بملامحها الفريدة، فهو الجبان «النتاش» الثرثار الفكه، الذي ينطبع حديثه بطابع خاص، فيكرر عبارة «نسائي طوالق وسفني غوارق» كلما هم أن يقرر شيئا يقسم على صدقه، كذلك وفق كل التوفيق في صورة «طليبة» الفتاة الشرود التي تحب فتهب حياتها للحب وتكره فلا تبالي أين تندفع مع كراهيتها.
لكنهما شخصان ثانويان في القصة، والعجيب أنهما جاءا معا في السياق، كأنما كانت ربة التصوير الفني تصاحب أديبنا عندئذ فتلهمه الصواب، ويتلوهما في جودة الخلق وسوائه «أبرهة» الطيب المتدين الذي يلين قلبه لحب «ريحانة» رغم دهائه في السياسة وبعد طموحه، وقد كان «للضحكة المزغردة» التي يضحكها حينا بعد حين، نصيب موفور في تحديد صورة الرجل، مما يدل على أن التصوير الفني يعتمد على أتفه الخصائص وأعظمها على السواء، ومما تجدر ملاحظته أن «أبرهة» هذا هو المغتصب الذي قام «سيف» لاسترداد بلاده من أسرته، والذي كان ينتظر من الأديب أن يقصد في تركيبه إلى بث النفور منه عند القارئ، حتى يمهد النفس لاستقبال بطولة «سيف» ومع ذلك فيستحيل على قارئ - فيما أعتقد - أن يخرج من القصة وهو كاره لأبرهة، ترى هل أراد أديبنا شيئا فغلبته شخصية «أبرهة» فيما أراد، كما غلب «ملتن» أمام «الشيطان» في ملحمة الفردوس المفقود حين أراد أن يصب الشيطان في صورة كريهة لتظهر بالمقارنة قوة الله وجلاله، فإذا نحن في النهاية إزاء قوة تبهر النفس وتغري بالمحاكاة؟!
ويجيء بعد ذلك في درجة الجودة الفنية «خيلاء» حبيبة «سيف»، فهي الفتاة الطاهرة المتدينة صاحبة الذوق الفطري في تفهم الأدب والفن، التي تحس بدافع المرأة في جوفها لكنها تجفل، كأنما هي شبيهة بقديسة ترى الرجس في غرائز الإنسان.
ومن خير ما كسبناه بهذا الأثر الأدبي النفيس، أن الأستاذ فريد قد صور نفسه - عن وعي منه أو غير وعي - صور نفسه الرقيقة المحببة إلى عارفيه جميعا، صورها في شخصية «أبي عاصم» - «فأبو عاصم» هو «أبو حديد» في رصانة عقله وفي حبه للخير وفي طيبة قلبه وفي حبه للأسلاف وتراثهم، بل وفي تعليمه للناشئة عن فطرة أبوية سليمة، حتى لقد عرفت كثيرا عن حياة أستاذنا فريد - مما لم أكن أعرفه - من صورة أبي عاصم، فقد ارتعش قلبه للحب الطروب، وهو على شيء من الوحشة واليأس مما حوله في عصرنا هذا الذي كتبت فيه الغنائم للصوص، ولم يعد به مكان لأصحاب الفكر والأدب والعلم والحكمة، ولعله قد تعمد أن يضع لنا «نفيل بن حبيب» النفعي الماكر، جنبا إلى جنب مع «أبي عاصم» كي يتم تصويره لنفسه في بطانة عصره هذا الذي نعيش فيه.
وأما «سيف» و«ريحانة» و«مسروق» فقد كانوا جميعا أمام عيني كأنهم أجلسوا في صندوق من زجاج قد ترى شفاههم متحركة بالكلام أحيانا، لكنك لا تسمع مما يقولون شيئا، فيتولى الكاتب عنهم الكلام في كثير من الأحيان، وتشعر أنت كأنك في متحف أثري ومعك الدليل يشرح لك ما تراه من تماثيل، فهؤلاء المساكين قد ضاعوا في غمرة الزمان الذي يجعل الناس «هكذا دائما»، فإذا تذكرنا أن «سيفا» هو البطل الرئيسي الذي ملأ قلب الكاتب بادئ ذي بدء، وأراد تصويره قبل أن يريد ذلك لأحد سواه، عرفنا فداحة الخسارة في فقده بين من أغرقهم التيار الذي يطمس الأفراد.
قد كنت ألاحظ أشلاء متناثرة عن شخصية سيف، فكنت ألاحظ نفسه القلقة الهائمة السابحة في خيالها، وألاحظ تردده الذي كان يقربه في مخيلتي من «هاملت»، وألاحظ احتقاره للذهب بالقياس إلى أهدافه العليا، لكني لاحظت ذلك كله أشلاء متناثرة، ولا «شخص» هناك - وربما كان النقص في إدراكي أنا لما بين الأشلاء المفككة من وحدة، أو لعله سوء الحظ الذي جعلني أبدأ منذ الخطوة الأولى في مقارنته ب «هاملت» في قلقه وتردده ورغبته في الانتقام وغير ذلك، فتظل المقارنة ماثلة أمام ذهني ليدفع ثمنها «سيف». •••
অজানা পৃষ্ঠা