لقد وقع الشاب في خيطي الرفيع أسيرا.
ورفعت كفي عن عيني، فإذا السماء صافية رائقة، وإذا القمر ضاحك باسم، ينقش نوره الفضي في أحجار الهرم، فأخذني فزع ونشوة في آن معا: فزع لما أوغلت فيه من عالم مسحور، ونشوة لأني قد وجدت شيئا أكتبه قضاء لما أمرت به الصديقة الفاتنة.
وعدت مسرعا إلى داري، وما أويت إلى مخدعي إلا بعد أن وصفت كل الذي رأيت، وحملت الوصف مكتوبا إلى صديقتي في صبيحة اليوم التالي، مغتبطا لما عساني واجد عندها من إعجاب عودتني إياه كلما كتبت لها شيئا.
لكني ما كدت أفرغ من قراءة ما كتبت، حتى ضحكت فيما يشبه ضحك الساحرة قائلا: ما هذا يا رجل؟ إن حديث العنكبوت والذباب قد سمعته منك منذ زمن طويل، أما يكون عندك من جديد؟
فقلت لها وأنا في ربكة شديدة من الخجل: أقسم لك بسحر عينيك، إني لا أذكر من القصة القديمة شيئا، وأن هذا الذي أرويه قد شهدته مساء الأمس رؤية العين.
فقطبت ما بين عينيها وقالت في صوت حالم: ماذا؟ أيكون الجديد قديما؟ أم أني أنا الأخرى مثلك قد نسيت؟!
الكراهية الصامتة
عجيبة هذه الكراهية التي قد يحملها الناس أحيانا بعضهم لبعض بغير سبب ظاهر معقول؛ فترى رجلا وقد اتخذ موقف الكراهية والمعارضة من رجل آخر، مع أنهما بعد لم تصلهما صلة من حديث أو عمل، لكنه يحس من نفسه استعدادا لرفض ما عسى أن يقوله هذا الآخر قبل أن يقوله؛ لأن رفضه في الواقع منصب على شخصه، فإذا رأيته معارضا لأقواله مفندا لآرائه، فإنما جاء ذلك عن كراهية لاحقة لكراهية سابقة، إنه قد بدأ برفضه للشخص ذاته ثم عقب على ذلك برفضه لأقواله وآرائه كائنة ما كانت، فإن قال هذا عن شيء إنه أبيض رأى هو أنه أسود، أو قال هذا عن شيء إنه أسود، رأى هو أنه أبيض، لا إخلاصا في التعبير عما يراه حقا وصدقا ، بل رغبة في نبذ هذا الشخص الكريه بكل ما ينطق به من نبأ أو حديث.
وكثيرا ما تكون هذه هي نفسها العلاقة بين جماعة وجماعة أو بين جيل وجيل، فترى الكراهية بينهما صامتة قائمة متحفزة متأهبة تتحين الفرص والظروف، حتى إذا ما سنحت لإحداها اللحظة المواتية نفثت سمومها على الخصيمة الكريهة دفعة واحدة، كأنه سيل حبيس وجد الثغرة فاندفق. إنك لتعجب أحيانا كيف تكفي الحادثة التافهة لإثارة حرب طاحنة بين شعبين، أو لإعلان خصومة حادة بين أسرتين، والواقع أن قد كانت الكراهية بين الجماعتين قائمة وإن تكن صامتة، ثم سنحت فرصة إعلانها، كأنها المرض الخبيث المزمن، يكمن حينا حتى ليظن بصاحبه الشفاء، فإذا لفحة خفيفة من البرد تثير كوامنه وتشعل خوامده.
وبين أبناء الجيلين المتعاقبين تقوم مثل هذه الكراهية الصامتة العجيبة، فأبناء الجيل المقبل - في أغلب الأحيان - ناقمون ثائرون على أبناء الجيل المدبر، الأبناء لا يعجبهم سلوك لا بدآبائهم، والأدباء لا يرضيهم أدب شيوخهم، والمشتغلون بالسياسة يرون في القادة قوة رجعية لا بد من زوالها، وكذلك آباء الجيل المدبر في أغلب الأحيان مستخفون بأولئك الصغار الناشئين، حتى ليكاد يستحيل عليهم أن يتصوروا أن من هؤلاء المقبلين أحدا هيأه الله لملء فراغهم، فلا الوالدون يرون في أبنائهم ما عهدوه في أنفسهم من متين الخلق وحميد الخصال، ولا الأدباء يلمسون في أدب الناشئين شيئا ذا غناء وبال، ولا قادة السياسة يطمئنون إلى أن هذا الشباب الغر قادر على تسيير السفينة بمثل ما سيروها. الجيل المقبل والجيل المدبر، كلاهما ينظر إلى الركب، فإذا هو عند الأول سائر إلى أمام، وإذا هو عند الثاني منزلق إلى وراء ... وهكذا ترى ثورة أولئك على هؤلاء، واستخفاف هؤلاء بأولئك، مظهرين للكراهية الصامتة القائمة بينهما؛ الكراهية التي ترفض القول نتيجة لرفض قائله، ولا تنتظر حتى تسمع ما يقوله القائل قبل أن تنتهي إلى رفض أو قبول.
অজানা পৃষ্ঠা