أما الفتاة، فأرسلت في إثره نظرة حية ولم تجزه غيرها، بل جعلت جزاء عمله من عمله نفسه؛ لأن ثرثرة الفقراء في الشكر على المعروف كهذيان الأغنياء في التبسط على المن به، كلاهما لا يكون إلا من خبث أو لؤم. هي فتاة أقدمت على الموت ولم تقدم على السرقة، وإنها لتعلم أن من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، ولكنها رأت الطفل غير أهل لأن يعرف موقع إحسانه من نفسها؛ لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري!
ولما أمسكت عليها النفس وراجعت الحياة، بدا لها فيما اعتزمته من الانتحار، فترددت وجعلت تساورها الظنون، وخلق لها من معدتها عقل جديد يبصرها فرق ما بين الجوع والشبع؛ وكذلك تعرض لبعض الناس حالات من الحرص يعقلون فيها ببطونهم، حتى إن أحدهم لو تحسس رأسه وهو يفكر لحسبه بطنا صغيرا من العظم؛ فأنشأت الفتاة تستقيم على طريقها وهي تؤامر نفسها على الحياة والموت، وقد بدأت تهضم في معدتها الطعام والعزيمة جميعا، ومات الذي كان بينها وبين الموت!
وبينا هي تسير نظرت في عرض الطريق سيدة لو لبس معنى الغنى لفظا ما لبس غير اسمها، ولو كان للكبرياء رسم ما رأيته غير رسمها، وقد أورثها الغنى ذلك الغرور بنفسها، حتى توهمت أنها في الأرض أخت شمسها، وبلغت في النعمة من الحمق والبطر، بحيث جعلت نفسها كالسماء متى تعبس وجهها استهلت لعناتها كالمطر، وهي من أولئك اللواتي يخرج الغني معهن في الطريق لا حارسا ولا منعما ولكن للكيد والفتنة؛ فتنة المساكين، وكيد الحاسدين، فخرجت في زينتها وكأنها حانوت جوهري، وهي نصف
8
من النساء ولكنها تتصابى، فكأن في وسامتها وابتسامتها شباب عشر فتيات جميلات! وقد ذهبت في أوضاع جسمها مذاهب هندسية بين المستدير والمستقيم والمنحني، حتى ظهرت كأن نصفها من الله ونصفها من الخياطة! وإذا رأيت جملتها رأيت روضة الجمال بألوانها وأزهارها، ولكن مصورة! فإذا انتهيت إلى وجهها رأيت للحسن هناك شهادة على الله، ولكن مزورة! وعلى الجملة فقد جعلها حسنها المالي في رأي نفسها كالشرائع؛ لا جدال فيها إلا من زنديق!
ورأتها الفتاة كما تنظر المرأة إلى المرأة بعين جامدة ليس فيها لغة ولا فلسفة ولا شعر ، فقالت: يا لها سعادة أن تكون هذه «العجوز» لا تتقدم في عمرها إلى الأمام، ولكنها ترجع إلى الوراء! وأن تظهر بين الناس حسناء، وإن كانت من القبح بحيث ذهب نصف نهارها في التحسن! وأن لا تجد من هموم الدنيا أكثر من هم الألفاظ إن قال الناس غير حسناء أو قالوا غيرها أحسن منها! ويا له شقاء أن تكون هي كما هي، وأكون أنا كما أنا!
ثم رمت بعينيها إلى السماء وانحرفت تواجه تلك السيدة، فما تبينتها هذه وألمت بما في نفسها حتى انقبضت كأنما أثارت الأرض في وجهها دابة جامحة، وجعلت تتحاماها وتلوذ ههنا وههنا، وتحتث قدميها كأنها لقاء خطر شديد، غير أن الفتاة ملأت عليها الطريق بحركاتها، فكانت وجهها
9
كيفما أمت أو انحرفت يمنة أو يسرة، وكأنما تطاردها مطاردة!
فلما عيت السيدة بأمرها، وغاظ الفقر نعمتها، وهاج فضول الفتاة حنقها وكبرياءها؛ وقفت لها وقفة القضاء عابسة الوجه شامخة الأنف، يكاد يستنفض الناس طرفها،
অজানা পৃষ্ঠা