فهذا التركيب الإنساني المعجز بقليله وكثيره وجملته على السوية، والذي استشرف منه العقل لأسرار هذا العالم كما توجه مرآة المرصد إلى السماء؛ لم يشهده عصر من عصور الدنيا قط إلا ذاهبا إلى الفناء بما كسب وما اكتسب، حتى ليمكن أن يقال: إن حياة الحي مصيبة تكبر كلما كبر. فكيف لعمري يحتمل هذا التركيب الهالك أن يسعد إلا بمقدار ما يدني إلى الفهم معنى السعادة الأبدية التي ليست من هذا العالم، كما تريد أن تفهم الطفل شيئا في نفسك فيراه معنى متمردا عاتيا، فلا تزال أنت تصغر منه وتمسخه وتحيله عن وضعه وتقلبه على وجوه مختلفة، إلى أن توافق صورة من هذه الصور فهمه الصغير الضعيف المتحامل على نفسه، فيدرك الوجه الذي أردت على الوجه الذي يريد هو، ويعلم ما ترمي اليه على الطريقة التي لا تعلمها أنت.
ولعل هذا هو السبب في أن الفطرة الإنسانية لا تزال من أول الدهر ضالة في طلب السعادة، تسترحل
19
إليها كل معنى، ثم لا تصل إليها بمعنى؛ فإن السعادة الدنيوية في التركيب الإنساني إنما هي بمقدار لغوي أو ما يشبه المقدار اللغوي لا غير.
20
وإذا نحن اعتبرنا هذا الوجود الفاني بما وراءه من عالم الغيب، رأينا كل صنف من الموجودات كأنه لغة متميزة بخصائصها، أوجدها الله في هذه الحياة لتدل عليه سبحانه بنوع من الدلالة أو ضرب من المجاز، فأينما مد الإنسان عينيه رأى لفظا كالإشارة أو إشارة كاللفظ .
ولكن قتل الإنسان ما أكفره! فإن ما لا يريد أن يفهمه ليذكره ويتذكر به أكثر مما فهمه لينساه، ولقد رأى أن ما فوق الأرض وما تحت السماء لا يدله بإشارة واحدة على أنه خالد في هذه الحياة الدنيا.
بيد أن الإنسان كما يكذب في الكلام يكذب في الفهم، فهو أبدا يحتاج - لشقوته - من هذه الطبيعة إلى أشياء تضل عواطفه، كما يحتاج إلى أشياء تهديها، ومن ههنا اقتحمت أهواؤه ونزغاته على الطبيعة وعلى الشرائع والأديان، والتبست في رأيه معاني الأشياء التي تتصل بنفسه؛ فظهر من الغنى ما يشبه الفقر، ومن الفقر ما يشبه الغنى، وصارت الحياة كلها جهادا وشقاء ونصبا؛ لأن المشكل فيها أكثر من الواضح، ولأن الطريقة التي يتبعها الإنسان الراقي في حل هذه المشكلات التي تعترض مطامعه وأغراضه، هي أن يحل مسألة بوضع مسألة مثلها؛ ذلك لأنه لا يهتدي إلى الكمال في شيء، وهو ناقص ولا يذعن أنه ناقص؛ وإلا فما باله يرى الحكمة الأزلية قد جعلت قوام صحته على القليل من الطعام دون الكثير، وعلى الخفيف دون الثقيل، وعلى الرخيص دون الغالي، وعلى الطعام كما يفيد دون الطعام كما يريد، ثم هو يأبى إلا أن يعد هذه الصفات وأشباهها في باب القلة من الفقر، ويعتبر نقائضها وما جرى مجراها في باب الكثرة من الغنى، ثم يضرب الله على بصره ويطبع على قلبه، فلا يرى لحاجته في الغنى من بلاغ وسبب إلا أن يكون المبالغة في الادخار، والإغراق في الجمع، والطماح كل مطمح، وأن يستأكل الناس فيكون عليهم أكلب
21
من الجوع، ويستصفيهم فيكون فيهم أسرع من المرض، ويستزلهم فيكون معهم أشبه بالرذيلة؛ ونحن نعرف الكد والحرص والبخل والشره والضراوة وكل الرذائل الاجتماعية، ونصفها ونحدها بآثارها وحقائقها، وكأننا لا نعرف أن كل رذيلة هي إنسان من الناس.
অজানা পৃষ্ঠা