والجواب أن هناك مندوحة عن الكذب، فإن المسئول إذا كان لا يجيد الشعر ولا يستطيع الحكم عليه يمكنه أن يقول بحق «لست من الشعر بالمنزلة التي تخول لي الحكم» فإن كان يجيد أو يستطيع أن يميز بين جيده ورديئه فليستحسن من الأبيات ما هو حسن في نظره، ولينتقد بلطف وأدب مواضع النقد عنده، ويرشده إلى طريقة التخلص من عيوبه، فهذا صدق لا يؤلم، وفيه من الفائدة ما ليس للمدح الصرف الكاذب، إنما يؤلم النفس احتقار الشيء جملة، وأن يقال الصدق بخشونة وفظاظة، أما النقد المؤدب فأشهى إلى نفس طالب الحقيقة من القول الكاذب المزوق. (2) الكذب في الحروب، فقد ترى أمة محاربة لأخرى أن تكذب عليها للإيقاع بها، كأن تقول: إنها ستهاجمها من جهة لا تريدها، أو تشرع بالفعل في الهجوم من ناحية وفي عزمها الهجوم من ناحية أخرى، تريد بذلك التعمية عليها، فهل يصح أن نلزمها الصدق فنضيع عليها النصر مع أن الحرب خدعة؟
والجواب أن الكذب في الحروب ليس كذبا في الحقيقة، لأن الأمة باعلانها الحرب على أمة أخرى قد أعلنتها بألا تفاهم بينهما، وحيث لا تفاهم لا كذب، لأن معنى إعلانها الحرب أنها ستفعل معها ما تستطيع من الإيقاع بها ولو بالخديعة، فمثلها مثل من قال لآخر: «سأقص عليك خبرا كاذبا» ثم قصه عليه، فليس هذا بكذب لأنه لم يخبره بغير ما يعتقد، فإن اعتقد السامع صدق الخبر فاللوم عليه. (3) وأدق من هذا وأصعب ما يحدث كثيرا، يكون لأم ولد مرض بالسل مثلا، وهي التي تمرضه وتعنى بشؤونه، وكان قد مرض لها ولد من قبل بذلك المرض ومات، استدعت الطبيب ففحصه وعرف مرضه فسألته: هل هو مصاب بالسل؟ سألته وهي مرتبكة مرتجفة تخشى أن يكون الجواب نعم، أفليس من الحكمة أن يقول الطبيب: إنها «نزلة شعبية» حتى تسترد قوتها وتعني بالولد. وهو أشد ما يكون حاجة إلى عنايتها. أو يقول الحق فتفقد قواها، وترتبك في تمريض ابنها، فيثقل المرض عليه ويسرع ذلك إلى موته؟
والجواب أن الناظر إذا قصر نظره على هذه الحادثة في وقتها رأى أن الكذب قد يكون واجبا، ولكنه إذا وسع نظره رأى أن الأم ستعلم أن مرض الولد كان السل لا النزلة الشعبية، وأن الطبيب قد كذب عليها رحمة بها، وسيعلم الناس ذلك فلا يثقون بقوله مهما أكد لهم عن المرض، ولو علم الناس أن الأطباء جميعا يتبعون هذه الطريقة لفقدوا الثقة بهم، فهذا الكذب قد أضاع معانى اللغة، وأزال الثقة بين الناس، وينبغي للإنسان عند الحكم على شيء أن يوسع نظره ليرى ما يترتب عليه من الإضرار في المستقبل القريب والبعيد.
ومع هذا فإنا نوجب على الطبيب أن يتخير الألفاظ التي يستعملها لأداء الخير. وأن يفتح على المريض وأهله باب الأمل بالقدر الذي يعتقد، ولكن لا يحيد عن الصدق.
على أنه إذا كان الصدق قد يودي بحياة بعض الأفراد، والكذب ينجيهم - وإن كنا لم نعثر في حياتنا اليومية على شىء من هذا - فلم لا نضحي بهذه الأنفس القليلة في سبيل الحق، وفي سبيل المحافظة على معاني اللغة، وثقة الناس بعضهم ببعض، وهي كلها ركن عظيم من أركان العمران؟ إذا كان من الصواب أن نضحي بآلاف النفوس للمحافظة على مملكة أفلا يكون من الحق أن نضحي بنفوس معدودة، ونحتمل أضرارا محدودة، للمحافظة على الحق؟
فلندع هذا النوع من الجدل، ولنلزم أنفسنا بقول الحق، كل الحق، في كل حال. (6) الشجاعة (6-1) معناها
الشجاعة هي مواجهة الآلام أو الخطر عند الحاجة في ثبات، وليست مرادفة لعدم الخوف كما يظن بعض الناس، فالذي يرى النتائج ويخاف من وقوعها ثم يواجهها في ثبات رجل شجاع، وما دام الإنسان يعمل في موقفه خير ما يعمل فهو شجاع، فالقائد الذي يقف في خط النار فيرتعش، ويخاف أن ينزل به الموت، ثم يضبط نفسه، ويؤدي عمله كما ينبغي قائد شجاع، بل هو شجاع أيضا إذا رأى أن خير عمل يعمله أن يتجنب الخطر، وأن الواجب يقضي عليه أن ينسحب بجنوده حيث لا خطر، فإن هو أضاع في موقفه رشده، أو ترك موقفا يجب أن يقفه، أو فر بجنوده من خطر كان عليه أن يواجهه، فهو جبان.
فليست الشجاعة تعتمد على الإقدام والإحجام، ولا على الخوف وعدمه، إنما تعتمد على ضبط النفس وعمل ما ينبغي، فإن ضبط الشخص نفسه، وعمل ما يجب أن يعمل في مثل موقفه رغم خطر أمامه، ورغم ما يشعر به من خوف، فهو شجاع، وإلا فلا.
وليس بالمحمود أن يتجرد الإنسان من كل خوف، فقد يكون الخوف فضيلة وعدمه رذيلة، فالخوف عند إمضاء عقد سياسي مثلا أو إنهاء أمر خطير فضيلة، إذ هو يحمله على الروية حتى يختمر رأيه، وفضيلة أن يخاف الإنسان من ثلم عرضه وشرفه، فليس بشجاع من يدخل الحانة ويشرب جهارا، أو يقامر على ملأ من الناس غير هياب ولا وجل، فذلك ضعف في الشعور لا شجاعة.
إنما الجبن المذموم والخوف المرذول أن يبالغ الإنسان في الخوف، أو يهول في الشيء المخوف، فمثلا كل إنسان عرضه لكلب كلب يعضه، أو سلك ترام يصعقه، أو سيارة أو قطار يدهمه، أو نار تشب في بيته، أو مكروه ينال منه، كل هذه الأشياء تخيف، ولكن الجبان يبالغ في الخوف منها، ويخشى جد الخشية من وقوعها، ثم يحمله خوفه على اجتناب العمل، فلا يركب مركبا - مثلا - خوف أن يغرق به، ولا يرحل عن وطنه إذا لم يجد عملا خوف أن يدركه الموت، ولكن الشجاع لا يفكر كثيرا في احتمال الشر، ثم إذا وقع لم يطر قلبه شعاعا، بل يصبر له، ويتحمله في ثبات، إن مرض لا يضاعف مرضه بوهمه، وإذا نزل به مكروه قابله بجأش رابط فخفف من شدته.
অজানা পৃষ্ঠা