ويختلف أيضا مفهوم الفضيلة الواحدة باختلاف العصور، فما كان يفهم من الشجاعة عند اليونان غير ما يفهم منه في العصور الحديثة، قد كادوا لا يفهمون منها إلا الصبر على تحمل الآلام الجسمية، واليوم نفهم منها ما هو أعم من ذلك، حتى إنها تشمل تعبير الإنسان عن رأيه من غير خشية لمن حوله، والعدل تطور مفهومة تطورات عدة حسب تطور الأمم في حالتها العقلية والإجتماعية، والإحسان إلى الفرد بالتصدق عليه قد كان يعد من أهم الفضائل في القرون الوسطى حتى وضع موضع النقد في العصور الحديثة، واعترض عليه بأنه لا يميز فيه بين المستحق للإحسان وغير المستحق تمييزا يوثق به، وبأنه يشل المحسن إليهم، ويقعد بهم عن العمل ويميت ما في نفوسهم من شرف وإباء، واستحسن المحدثون إنشاء جمعيات للإحسان تحسن إليها الأفراد وهي التي تتولى الإنفاق على المعوزين بعد أن تدرس حالتهم وتعرف فقرهم، ولا تكتفي هذه الجمعيات بإعطاء المال إلى المحتاجين، بل توجد عملا لمن لا عمل له، وتنقذ أولاد البائسين من آبائهم حتى لا ينشئوا نشأتهم. ولا يصابوا بمرضهم، فتنشئ المدراس الصناعية، وتعلمهم علما عمليا يكتسبون منه أقواتهم، وقد اهتم كثير من الأمم الممدنة بإنشاء هذه الجمعيات، وحرمت إحسان الفرد للفرد، وحضت على إحسان الفرد للجمعيات.
وهكذا الشأن في كثير من الفضائل، قد هذبها رقي العقل وتقدم المدنية.
كذلك تختلف قيمة الفضائل باختلاف حالة الأفراد وأعمالهم، ففضيلة الكرم بالنسبة للفقير ليست من الأهمية بالدرجة التي لها بالنسبة للغني، ولا الفضائل التي في الدرجة الأولى للمسن هي بعينها الفضائل التي في الدرجة الأولى للشاب، ولا فضائل المرأة مرتبة ترتيب فضائل الرجل، ولا فضائل التاجر هي نفسها فضائل العالم وهكذا. ومن الصعب على الأخلاقي التعمق في التفصيلات، وبيان الإختلافات الدقيقة بين الأشخاص التي يترتب عليها اختلاف في قيمة الفضائل.
وكل الذي نستطيع أن نقوله إن الناس جميعا - مهما اختلفوا - مطالبون بفضائل عامة من صدق وعدل ونحوهما يجب أن يتصفوا بها، وأنهم على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم يستوون في شيء واحد، وهو أن كلا منهم مطالب أن يضع في الدرجة الأولى من الأخلاق ما يناسب حالته ويتفق مع مركزه الإجتماعي وعمله الذى يؤديه، وإن اختلف تطبيق ذلك. (3) أقسام الفضيلة
بعض الفضائل يمكن أن تدخل في فضائل أشمل منها، كالأمانة، فإنها تدخل في مفهوم العدل. وكالقناعة فإنها تدخل تحت العفة، وبعض الفضائل يكون مولدا من فضيلتين أو أكثر، كالصبر فإنه ينتج من العفة والشجاعة، وكالحذر، من العفة والحكمة، فما أصول الفضائل التي هي أساس لغيرها؟
قد ذهب «سقراط»
1
إلى أنه «لا فضيلة إلا المعرفة» يرى بذلك أن معرفة الإنسان الخير والشر تكفي وحدها لعمل الخير وتجنب الشر، وإقدام الإنسان على الشر ليس له من سبب إلا الجهل بنتائجه، ألا ترى الإنسان إذا رأى سبعا ضاريا لا يقدم على عرينه، وإذا رأى هوة سحيقة لا يتردى فيها وهكذا، فلو علم الإنسان نتائج الشر علما جازما صحيحا لم يقدم عليه، فكل الشرور ناشئة من الجهل، ولو علم المرء أين الخير لعمله حتما، وعلل ذلك بأن كل إنسان بطبيعته يقصد الخير لنفسه ويكره لها الشر، فمحال أن يفعل ما يضرها وهو عالم بضرره، فما يصدر عن إنسان من الخطأ إنما منشؤه الجهل بما يعقب العمل من نتائج أو الشك فيها، وعلاج الشرير أن يعلم نتائج الأعمال السيئة التي تصدر عنه علما صحيحا، ولتعويد إنسان الخير وجعله مصدرا للفضيلة يعلم نتائج الأعمال الحسنة.
وهذا خطأ واضح فكثيرا ما نعلم الخير ونتجنبه، ونعلم الشر ونأتيه، فمعرفة الخير ليست كافية في الحمل على فعله، بل لا بد أن ينضم إليها إرادة قوية حتى يعمل على وفق ما علم.
وعلى رأي «سقراط» ليست هناك في الحقيقة إلا فضيلة واحدة وهي «المعرفة» وإن شئت فسمها «الحكمة»، وليس غيرها من الفضائل كالشجاعة والعفة والعدل إلا مظهرا من مظاهرها وصادرا عنها.
অজানা পৃষ্ঠা