أما مذهب «اللقانة» فيرى أن هناك أشياء هي خير في ذاتها، وهي التي اصطلحنا على تسميتها فضائل، من صدق وعدل وشجاعة وعفة ونحوها، وهناك أشياء شر في ذاتها وهي التي تسمى الرذائل من ظلم وكذب وجبن ونحوها، ولسنا نحكم على هذه الأعمال بأنها خير أو شر تبعا لنتائجها، ولا في بعض الأحوال دون بعض، وإنما نحكم عليها حكما عاما مطلقا مهما كانت نتائجها، فالصدق والعدل والعفة خير دائما سواء أنتجت لذة أو ألما، والكذب والظلم والشره شر دائما سواء أنتجت لذة أو ألما، والإنسان الخير من وجه إرادته للعمل حسب ما تهديه نفسه للخير، والغاية الأخيرة التي ينبغي أن يسعى إليها هي أن يكون فاضلا، يتبع الفضيلة حيث كانت، ويلزم نفسه بالعمل على وفقها ولو تحمل في سبيل ذلك الآلام الجسام، وليست الغاية هي السعادة كما يقول المذهبان السابقان، ولكن الغاية أداء الواجب، والتمسك بالفضيلة، وإن ضحى لذلك باللذة والسعادة بل وبالحياة إذا دعت الحال، وليس للسعادة قيمة إذا قيست بالواجب ، واللائق بشرف الإنسان أن يسمع لوحي الضمير من غير أن ينتظر حساب اللذائذ والآلام، وأن يفعل الواجب للواجب لا لشيء وراءه.
الفصل السادس
علاقة الفرد بالمجتمع
نرى الإنسان يصيب عضوا من أعضائه مرض فيتألم له سائر الجسد، ولا يقتصر الألم على العضو المريض، وقد ينتهي ذلك بالموت، فتسلب الأعضاء كلها ما فيها من حياة، فأعضاء الجسم كلها متضامنة، يتأثر سائرها بما يصيب أحدها، وقد حكوا أن معدة الإنسان قالت مرة: إني أهضم الغذاء كله، وأتعب في ذلك، ولا يصيبني منه إلا القليل، وقال القلب: إني أوزع الدم على سائر الجسد، ولا ينالني منه إلا قطرات، وقالت الرجل: إني أسعى في الأرض شرقا وغربا لكسب القوت، مع أن حظي من ذلك العناء قليل، وهكذا، فأضربت الأعضاء عن العمل، فبعد مدة أحست المعدة بألم الجوع، وأحس القلب بالضعف، وأدرك كل عضو أن خيره في أن يعمل له ولغيره، فعادت جميعها إلى العمل.
على العكس من ذلك نرى المجموعة من الحجارة لا رابطة بين أفرادها، ولا يحس سائر الحجارة ما يقع على حجر منها، فلو أنا أخذنا أحدها وحطمناه لم يتعد ذلك الأثر غيره.
فما كان من الصنف الأول فهو (جسم عضوي) كالإنسان والحيوان والنبات، وما كان من الصنف الثاني - ككل مجموعة من أحجار وأخشاب ونحوها - سمي (جسما غير عضوي).
فمن أى الصنفين الجمعية من الناس، كالأسرة والحزب والأمة؟
إنا بقليل من النظر نرى أنها (جسم عضوي)، ولنأخذ مجتمعا صغيرا نحلله تحليلا دقيقا لنبين منه كيف يعتمد المجموع على أجزائه والأجزاء على المجموع، ونتدرج في النظر من المجتمع الصغير إلى المجتمع الكبير.
فأصغر المجتمعات الأسرة، وهي تتكون عادة من أب وأم وأولاد وأقرب الناس إليهم، وفيها يعتمد كل فرد على الباقين، الكل يخدم الفرد، والفرد يخدم الكل، فاعتماد الأولاد على الآباء في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم ونظافتهم وغير ذلك واضح جلي، أما الآباء فقد يعتمدون على أولادهم إذا كبروا ومست الحاجة، ولكن أهم من هذا وأكبر قيمة في نظرهم ما يشعر به الآباء من السعادة بما يرون من حب أبنائهم لهم، وحنانهم إليهم، وأن كلمة شكر صادرة من قلب أو عملا يدل على الاعتراف بالجميل من الابن لأبيه أو أمه ليدخل على قلبهما من السرور ما لا يقدر.
وانظر إلى علاقة الأولاد أنفسهم بعضهم مع بعض تر أن كل طفل في الأسرة يؤثر في الباقين ويتأثر بهم، ولو عاش الإنسان من مبدئه عيشة عزلة وانفراد لنشأ كالحيوان الأعجم، فكل طفل يتعلم من إخوانه وأخواته المشاركة في العواطف، فيشاركهم في فرحهم، ويشعر بالحزن لحزنهم، ويتعلم درس الأخذ والعطاء، فيعرف أنه يجب أن يعطي كما يأخذ، وأن يتنازل عن بعض ما يحب، ويتعلم تبادل المعونة مع الآخرين.
অজানা পৃষ্ঠা