فبدت الدهشة على وجه إسفينيس، وتفرس لاتو في وجهه باهتمام شديد، أما الشاب فاستدرك قائلا وهو في غيبوبة الحزن الشديد: هذا القصر الذي اغتصبه الحاكم خنزر هو مهد طفولتي ومرتع صباي، وبين جدرانه العالية قضت أمي البائسة عهد الشباب والنعيم في كنف والدي قبل أن تقع القارعة في أرض مصر، وتطأ أرض طيبة المقدسة أقدام الغزاة. - ومن كان أبوك يا أحمس؟ - كان أبي قائد جيش مليكنا الشهيد سيكننرع.
فقال لاتو: القائد بيبي؟ .. يا إلهي .. حقا هذا قصر القائد الباسل.
فنظر أحمس إلى لاتو بدهشة وسأله: هل كنت تعرف أبي أيها السيد لاتو؟ - وهل وجد في جيلنا من يجهله؟ - إن قلبي يحدثني بأنك من السادة الذين شردهم الغزو.
فسكت لاتو رغبة عن أن يكذب على ابن القائد بيبي وسأله: وكيف انتهت حياة القائد الباسل؟ - استشهد يا سيدي في الدفاع الأخير عن طيبة، أما والدتي فعملت بوصيته وفرت بي في جمع من السادة إلى حي الفقراء حيث نعيش الآن، لقد تشتت سادة طيبة الأقدمون، وتخفى قوم منهم في أسمال بالية وهاجروا إلى حي الصيادين، وركبت أسرة مليكنا البحر إلى مكان مجهول، وأغلق معبد آمون أبوابه على كهنته فانقطع ما بينهم وبين العالم، وخلا الجو للبيض الغرباء ذوي اللحى يمشون في الأرض مرحا، ويملكون كل شيء، وكان خنزر أسعد القوم حظا فزوجه الملك أخته، ووهبه ضيعة أبي وقصره، ونصبه حاكما على الجنوب جزاء ما اقترفت يداه الأثيمتان.
فسأله لاتو: وأي ذنب اقترفه الحاكم؟
وكان أحمس سكت عن البكاء، فقال بلهجة تنطوي على الغضب الشديد: يده الأثيمة التي أردت مليكنا سيكننرع.
وانتفض إسفينيس كمن مسته نار حامية، ولم يطق قعودا فانتصب واقفا متوعدا وقد ارتسم الغضب على وجهه بصورة مروعة تبعث الرعب في الأفئدة، في حين أغضى لاتو الطرف ممتقع الوجه لاهث الأنفاس، وردد أحمس بصره بينهما فوجد أخيرا من يشاركه عواطفه المضطرمة، فرفع رأسه إلى السماء وتمتم قائلا: ألا فليبارك الرب هذا الغضب القدسي!
وبلغت السفينة مرفأها، وكانت الشمس تنغمس في النيل والشفق يخضب الأفق، فقصدوا إلى بيت إبانا، ووجدوا السيدة تشعل مصباحها، فلما شعرت بمقدمهم تحولت إليهم وعلى فمها ابتسامة ترحيب، فتقدم منها لاتو وإسفينيس وانحنيا لها في إجلال، وقال الشيخ في صوت رزين: طيب الرب مساء أرملة قائدنا العظيم بيبي!
فغاضت الابتسامة من شفتيها، واتسعت حدقتاها دهشة وانزعاجا، وحدجت ابنها بنظرة لوم وتأنيب، وأرادت الكلام فامتنع عليها، فاغرورقت عيناها بالدموع، فدنا منها أحمس ووضع يدها بين راحتيه، وقال لها بحنان: أماه لا تخافي ولا تحزني، وقد علمت ما أولاني هذان السيدان من الجميل، واعلمي إلى هذا أنهما كما ظننت من سادة طيبة الأقدمين الذين شردهم الطغيان، نازعهما الشوق إلى اجتلاء وجه الوطن مرة أخرى!
فسكنت نفس المرأة ومدت لهما يدها فطالعاها بوجهين ينطقان بالصفاء والإخلاص، وجلسوا جميعا متقاربين، وقال إسفينيس: إن فخرنا العظيم بالجلوس إلى أرملة قائدنا الباسل بيبي، الذي قضى في الدفاع عن طيبة ولحق بمولاه من أنبل السبل، إلى ابنه الشاب المتحمس أحمس!
অজানা পৃষ্ঠা