وانفرجت شفاه راشد عن ابتسامة عريضة جاوبتها فرحة في مشاعره، إنه كان صادق النظر في أمر شهاب، وقال له: ولم تعطينيها؟
وفي خبث شديد قال شهاب: وماذا يمكن أن أفعل غير هذا؟ - تأخذها ولا من شاف ولا من دري. - أيجوز لي هذا؟! كيف يصح أن أصنع شيئا ولا أخبرك به؟ - مبروك عليك الخمسون جنيها، وأبشر بمستقبل لم تكن تحلم به في وظيفتك الجديدة إن شاء الله. •••
وهكذا فتح شهاب لنفسه أوسع الأبواب بهذا التصرف الذي يبدو بسيطا بينما هو بعيد الدلالة بالنسبة لراشد؛ فقد فهم منه أولا أن شهابا لن يرفض الرشوة بل هو يقبلها ويقبل مبالغ ضئيلة؛ فهو لن يثقل عليه في أنصبته مما يأخذه هو من التجار، وهو أيضا يصارحه بكل ما يحدث بينه وبين المتعاملين مع الوزارة، وما لبثت الأمور أن سارت كما شاء لها راشد الجوهري؛ فأصبح شهاب هو وحده الذي يصحب التجار إلى المزارع وكانوا جميعا يقدمون مبالغ تتراوح بين خمسين ومائة جنيه، وأصبح على وعي تام بما يحدث في مكتب راشد؛ فقد كان التاجر الذي يأمنه راشد على سره يعرف أعلى العطاءات السرية ويقدم عطاء مرتفعا عن أعلى عطاء بمبلغ صوري زهيد ويصحب هذه الدراية مبلغ ضخم يدفع لراشد، وحين تأكد راشد أن شهابا عرف السر أصبح يعطيه جزءا من المبلغ الذي رشاه به التاجر.
وسارت الأيام رغدا لشهاب بصورة لم تكن تخطر له على بال، وتوثقت الصلة بينه وبين راشد الذي يدعوه في كثير من الأوقات ليتناول الغداء أو العشاء بمنزله، وكان المنزل شقة أنيقة في عمارة فخمة بجاردن سيتي، وكان أثاث الشقة فاخرا بصورة لم يتصور شهاب أن الفضل فيها يرجع إلى راشد، وحين رأى شهاب زوجة راشد السيدة مها مرسي وشاهد ما هي عليه من أناقة عرف السر في هذا الأثاث الفاخر الذي أذهله في أول مرة زار فيها رئيسه، وقد كان شهاب على دراية بأناقة الأثاث مما كان يشهده بمنزل فؤاد باشا الجويني سواء في بيته بالبلدة أو في قصره بالقاهرة الذي كثيرا ما صحب أباه إليه.
كانت زوجة راشد أنيقة رفيعة الذوق؛ الأمر الذي يبلوره أثاث البيت كما يظهر بوضوح فيما ترتديه من ملابس أو ما تختاره لنفسها من حلي غاية في الجمال، ولم يكن شهاب يعنى كبير عناية إن كانت هذه الحلي أصيلة أو غير أصيلة، ولكن الذي أدهشه أن هذه الملابس والحلي لم تستطع أن تجعل منها هانم سيدة جميلة، فلو أنها استبدلت بفاخر الملابس والحلي الجميلة ملابس أقل شأنا ولو أنها لبست الحلي البسيطة التي لا تتسم بالإبهار، لو أنها فعلت هذا لما توقف عندها نظر الناس لحظة من زمن سواء كان هؤلاء الناس رجالا يبحثون عن الجمال أو كن نساء يبحثن عما يثير فيهن الغيرة أو الحسد.
ولم يعرف شهاب أن راشدا تزوجها لأنها في مكانة ابنة عمه، ولأن والدها على شيء من الثراء ولكنه ثراء متواضع إلا أنه بالنسبة لراشد كان كافيا لأن يختارها زوجة له. وقد رزق الزوجان بابنين وابنة؛ أما الابنان فقد تخرج أحدهما وهو مرسي الذي يحمل اسم جده لأمه في كلية الهندسة، وأما الآخر فهو حمدي المسمى على اسم جده لأبيه فقد تخرج في كلية الحقوق، وأما الابنة فقد رآها شهاب في إحدى زياراته وعرف اسمها سعاد على اسم جدتها لأمها. وكانت فتاة رشيقة، وكان طبيعيا ألا يتوفر لها أي نصيب من الجمال؛ فلا الأب يستطيع أن يمنحها إياه، ولا الأم بقادرة أن تعطيها أي مسحة منه، ولعل هذا الحرمان من الجمال هو الذي جعلها متفوقة في دروسها. وقد كانت حين رآها شهاب في السابعة عشرة من عمرها توشك أن تنتهي من المرحلة الثانوية، وتعد نفسها للالتحاق بكلية الطب، ولكن الأمر الذي أدهش شهابا أن راشدا مع قبح زوجته لم يكن عربيدا أو باحثا عن النساء بل كان فيما عدا الرشى التي يقبضها من التجار رجلا محافظا كل المحافظة على دينه، ويقيم الصلوات في مواقيتها ويصوم مضان، وقد استطاع أن يجذب شهابا إلى هذا المضمار، وانجذب شهاب ليرضيه، أما هو في داخل نفسه فلم يكن يشعر بذرة من الإيمان أو بفائدة تعود عليه من هذه العبادات، وإنما يسير في هذا الطريق إرضاء لرئيسه راشد وليس غير.
وقد عجب من هذا الحفاظ على فرائض الإسلام من راشد، وكان مبعث عجبه أمرين؛ أولهما قبوله للسحت والمال الحرام مع هذا الحرص الشديد على طاعة الله ورسوله، وثانيهما زهده في النساء مع قبح زوجته، ولكن هذا العجب ظل دفينا في نفس شهاب لا يبين عنه وهو عجب قد يسري في خبيء النفس، وهو بطبيعته غير قابل أن يكشف عنه خوافي نفسه أو يبين ما استسر بها من مشاعر.
الفصل السادس
قامت الثورة وأوشكت أن تمسك بتلابيب كل المصريين لا تترك منهم أحدا. تغير وزير الزراعة، وأطاح الوزير الجديد بفتحي السكرتير الخاص، وبراشد مدير المكتب، أما شهاب فقد ظل في مكانه لهوان أمره فما كان أحد يشعر به، ولم يسارع الوزير الجديد بتعيين سكرتير خاص له أو مدير مكتب فكان حتما من الحتم أن يتولى شهاب أعمال السكرتير، وهو واثق أنه يقوم بها بصفة مؤقتة. ومرت أيام وهو يتوقع في كل لحظة أن يعين الوزير الجيد سكرتيرا له إلا أنه فوجئ في مرة كان يعرض فيها على الوزير بعض أوراق وإذا بالوزير يسأل عن شهادته. وعن عمل أبيه، وعن كل شأن من شئونه الخاصة. وكان شهاب مع الذعر الذي شاع في الحياة حريصا كل الحرص أن يكون صادقا غاية في الصدق فيما أدلى به من معلومات، ويبدو أن الوزير لم يجد فيما سمع من سكرتيره ما يمنع أن يظل سكرتيرا له، وكانت المفاجأة مذهلة لشهاب أن طالعه الوزير بعد الأسئلة العديدة التي وجهها إليه بقوله: أنا سأبقي عليك سكرتيرا.
وفي دهشة فرحة قال شهاب: تحت أمرك يا افندم. - ولكن هناك شروطا. - تحت أمرك يا افندم. - ما يجري هنا لا يعرفه أحد في الخارج حتى وإن كان أباك . - طبعا يا افندم. - الشرط الثاني أن تكون صادقا معي غاية الصدق، وتطلعني على كل شهيق أو زفير لكل الموظفين أو الزوار أو أي أحد تعرفه. - هذا أمر مؤكد يا افندم. - ومقابل هذا سأبقي درجة مدير المكتب خالية حتى أتأكد من تنفيذك لهذه الشروط بكل دقة. - ربنا يطيل عمر سيادتك يا افندم. - وسأبدأ الآن. - تحت أمرك يا افندم. - ما الذي تعرفه عن مدير المكتب السابق راشد حمدي الجوهري؟
অজানা পৃষ্ঠা