في اليوم التالي أيقظه أبوه من الفجر: فرغلي. - نعم يا آبا. - نتيجة الابتدائية ظهرت البارحة. - نعم أعرف. - وأنت هل سقطت؟ - لا. - لا ... لا ماذا؟ - أنا نجحت. - ماذا تقول؟ - نجحت. - ولماذا لم تخبرني؟ - كنت مشغولا بخالتي شهاوي. - وهل يمنع هذا أن تخبرني بنجاحك؟! النهاية ... هات قبلة وخذ خمسين قرشا مكافأة لك. - كثر خيرك. - واغسل وشك وتعال ... - حاضر. ••• - ماذا تنوي أن تعمل؟ - فيم؟ - كثيرون يستطيعون أن يتعينوا بالابتدائية. - تعيين أغبر. - فأنت تريد أن تكمل؟ - نعم. - توكلنا على الله. - لن أكلفك شيئا. - كيف؟ - وهل كنت أكلفك شيئا؟ ألم أكن أعمل؟ - أنت تعرف أن الحمل سيكون ثقيلا فأنا الآن أنفق على سيد أحمد ابن شهاوي كما سأنفق على المولود الجديد. - يا آبا لا تخف لن أكلفك شيئا. - على كل حال أنا اتفقت أن أبيع هذا البيت. - ماذا؟! وأين نعيش؟ - في بيتنا في البلد؛ ليس هناك داع أن يكون لنا بيتان. - ولكني أريد شيئا آخر. - ماذا؟ - أريد أن أذهب إلى مصر. - إلى مصر! ماذا تعمل هناك؟ - أتعلم في مدارس مصر وأعيش مع عمتي تفيدة.
وصمت فهيم وحملق في ابنه ... الفكرة حسنة من كل الوجوه، فتفيدة تحبه وحالتها المالية منتعشة بمرتب زوجها وبما يعطيه لها أبناؤها من معونة، فأحدهما طبيب والآخر مهندس، وهما وإن كانا في أول حياتهما إلا أنهما يستطيعان دائما أن يبرا أمهما وأباهما، ولكن! - الفكرة لا بأس بها والله يا فرغلي. - إذن فأنت موافق. - ولكن ألم تلاحظ شيئا؟ - ماذا؟ أولاد عمتك ممدوح ويحيى لم يزرني أحد منهما أبدا ولا حتى حسين ... منذ تزو ... - أكمل يا أبي ... نعم منذ تزوجت أمي لم يزرك أحد منهم. لهم حق؛ ولماذا يزور ناس محترمون مثلهم بيتا الست فيه رقاصة؟ - اخرس لا تقل هذا عن أمك. - أمي! الأم يا آبا لا تترك ابنها. - اخرس. - حفظت بيتا في المحفوظات. - تكلمني بالشعر؟ - حفظته بعد أن تركتنا زوجتك بأيام قليلة. - ترفض أن تقول أمي. - البيت لشاعر عربي يعتبر أعظم الشعراء، وربما سمعت عنه اسمه المتنبي. - لا يهم. - البيت يقول:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون هم
فهمت يا آبا. - لا. - أحسن، فالحال معنا مقلوب، وهي التي رحلت، وليس نحن، ولكن تعرف يا آبا إن ذهاب أمي أحسن شيء عملته في حياتها لتصلح ما عملته أنت. المهم أريد أن أروح لعمتي. - افرض أنها رفضت. - لا يهم. - أخاف أن تخجل وتنكسف. - ليس هناك شيء أصبح يخجلني أو يكسفني. - لماذا؟ - أنت فرضت علي هذا. - أنا؟ - ألست أنت من اختار لي أمي؟ - اخرس. - لقد قلت ما أريد، وليس يهمني أن أخرس الآن. أنا ذاهب إلى عمتي تفيدة، ولا تنس أنها هي لم تنقطع عن زيارتنا مطلقا. - ألا تنتظر على الأقل حتى تنتهي الإجازة؟ - لا يجوز لمثلي أن تكون له إجازة. - ماذا تعني؟ - أعني أنني يجب أن أذهب من الآن حتى أبحث عن عمل أعيش منه. - عمل؟ - نعم. - مثل ماذا؟ - مثل قاه في مقهى، أو فراش في شركة، أو ماسح أحذية ... أي شيء. - تكون حامل ابتدائية وتعمل ماسح أحذية! - أنا لا أحمل الابتدائية وحدها، ولكني أحمل معها رقص أمي وفقر أبي! ألم أقل لك إن شيئا في الوجود لا يستطيع أن يكسفني. - أعوذ بالله! هل أنت بني آدم أنت؟ - أنا البنى آدم الذي صنعته أنت يا آبا. - اذهب حيث تشاء. - أنا فعلا ذاهب. - غدا. - بل اليوم.
وهكذا لم يتح لفرغلي أن يكون واحدا من القرية مطلقا، فقد عاش طفولته الأولى فصيلة واحدة لا يخالط أحدا، وحين عرف السبب أصبح يتمنى أن يزداد انعزالا حتى إذا قبله مجتمع القرية لم يدم هذا القبول أكثر من شهور، كان اجتماعه فيها بأبناء قريته لساعات نادرة لا تكاد تحصى، فحين أذن القدر أن يصبح بيتهم من بيوت القرية وتتمازج أسرته مع أسراتها في هذا النسيج البشري الذي يعرفه الناس كل الناس في كل القرى؛ فصل هو نفسه عن هذا النسيج ليذهب إلى القاهرة هناك حيث كل بيت نسيج وحده لا تلتحم خيوطه مع أنسجة البيوت الأخرى، فقد أصبحت القاهرة منذ ذلك الحين تمثل المجتمع الذي لا يجتمع فأبناء العمارة الواحدة قد لا يتعارفون فكيف بأبناء الشارع أو أبناء الحارة، وإن تعارفوا فزيارة تجيبها زيارة ليس في القاهرة هذا المجتمع الذي تتداخل الخيوط فيه لتكون ثوبا واحدا هو القرية المصرية.
في القرية كل إنسان جزء من كل إنسان. في المدينة الإنسان له حدوده ومعالمه الواضحة؛ البيئة المساحة بلا تمازج ولا مشاركة إلا إذا ائتلف صديقان أو التأم بضعة أفراد، ولكن هذا الائتلاف أو ذلك التآخي يكون وليد وحدة مشاعر أو وحدة تفكير وكثيرا، بل كثيرا جدا، ما يكون وحدة منفعة وليس من أثر لوحدة المكان مطلقا في هذه الصلات.
وفرغلي وهو في طريقه إلى القاهرة لم يكن ينوي أن يقيم صلات أو ينسج علاقات، وإنما كان ذاهبا وهو يعرف تماما إلى أين هو ذاهب ولماذا وكيف؟
بل كان يعلم أنه يستطيع أن يصل إلى الهدف أو الأهداف التي يتغياها ويعرف إليها بدلا من الوسيلة عدة وسائل. وكان مطمئنا أنه يملك شيئا لا يملكه إلا القلة النادرة من الناس أن أمه راقصة ومن كانت أمه راقصة في المجتمع المصري فهو يملك شيئين لا يتاحان لغيره.
يستطيع أن يلح وأن يقبل أي حذاء وأن يضع رأسه حيث تأنف الأحذية أن تضع نفسها هذه واحدة، وأما الأخرى أن الناس لن يستغربوا هذا منه إذا عرفوا أنه ابن راقصة، وأنهم يحبون من يجعل منهم آلهة، ومن أكثر مقدرة من ابن الراقصة على أن يجعل عباد الله آلهة؟!
অজানা পৃষ্ঠা