إذا غضب يتحول صوته إلى زئير؛ فيخرج من صدره طبقات كثيفة صافية رنانة، ويرتفع إلى أعلى درجة من النبرات، ثم يهبط بلا تعب إلى عذوبة الاستعطاف أو الشكوى.
وإذا رضي أصبح الصوت نغمة أو حفيفا كأن هناك آلة موسيقية تبعث ألحانا شجية يحسدها عليهما أطرب المنشدين.
إن للاشو كل ما يلزم ليكون محامي العواطف، وقد صار كذلك بفضل شعور منبعه النفس لا الفن، لقد أتمت الطبيعة على لاشو نعمتها من ضمير يبعث الضياء إلى فكر ينفث السحر إلى لحظ باهر وإحساس قاهر، وبساطة تقرب منال الألفاظ والمعاني، وعاطفة تحمل معها السامع، وأداء يأخذ بالأبصار، وإلقاء يستولي على مجامع القلوب. لله دره! ما أعرفه بأسرار النفس البشرية وما فيها من عثرات وألم وشقاء وخيانة! لقد دخل في ذلك النفق المظلم نفق الحياة العصرية، ونزل إليه درجة درجة؛ فأبصر كل ما فيها من بؤس وفظائع، ووقف على محركاتها وأدرك أسبابها، ولمس بيده جراحاتها، ورأى عن كثب ما في أعماقها من أصناف الذل وألوان العار، ولما انتهى إلى هذا الحد أخذته الشفقة على هؤلاء الساقطين شهداء الأقدار، فصعد من الأعماق حاملا معه الرحمة، ومنذ ذلك الحين اتخذ موقفه إلى جانبهم يدافع عنهم بقلمه ولسانه، وينصرهم بحكمته وبيانه، ويفتح لهم أبواب النجاة بقوة برهانه. •••
وسر المقدرة أنه يتعمق في درس الدعوى ويلج إلى قلب القضية، فينظر بعين المتهم، ويحس بأعصابه، فيغضب غضبه، ويصرخ صراخه كأنه يطلب الرحمة لنفسه، ويترجم عن يأس المسكين بيأسه. يأخذ شبكة الاتهام ويلقيها على ذاته بافتخار، ثم يقطعها تقطيعا كأنه من مصارعي الرومان.
يكفيه دقائق معدودة ليرى كل شيء ويقبض عليه ويسبر غوره ويدرك كنهه؛ انظر إليه جالسا مصغيا إلى أقوال المدعي العام واستنتاجاته وتهمه وإهاناته، وهو مطمئن النفس ساكن الجأش لا يتحرك فيه غير يده المحمومة تقطع بالمدية قلما وقع إليه. يستقبل بصدره ضربات الخصم ويعدها ليردها إليه بعد قليل بالربا الفاحش. ينظر إلى خصمه وجها لوجه لأن قوته ستظهر عن قريب، تلك القوة هي كلماته العظيمة التي يوحيها إليه احتدام الجدل والمناظرة؛ فيخترع ويبدع وينفخ كالخالق روح الحياة في خطابه.
يتقدم إلى المنبر حر الفكر، لا يعيقه تذكار، ولا تقيده لفظة هيأها أو جملة ركبها. لقد أعمل فكره وكفى، وما أحقه بما قيل عن فوسينون: «ليست ذاكرته للألفاظ والجمل ، بل هي صفحة حساسة تلتقط كل التأثيرات وتقع على كل المعاني، فهو يتنبه تنبها ولا يتذكر تذكارا.
وإذا كان المتهم واحدا من أولئك العاثري الجد الذين يخشى منهم ويشفق عليهم، فإنه يعرف أن يمشي إليه بجرأة، ويرفعه ويحمله بذاته فوق حافة الهاوية كأنه يريد أن يزجه فيها، ثم يريك بإشارة أعماقها المظلمة فتتراجع مذعورا، وإذ ذاك يرفع الخطيب رأسه، ويرفع المتهم معه شارحا حاله خالعا عليه حلة جديدة باكيا مستعطفا، وإذا بالرجل قد نجا لأنه من فوق الهوة البعيدة الغور تنتصب الرحمة التي هي عدل القلب والتي يقدر الصوت العظيم أن يوحيها أبدا إلى النفوس العظيمة.
إي وايم الحق عندما نسمع لاشو يتكلم لا نتمالك أن نقول مع أفلاطون: «الكلمة هي الله».
أرأيتم صدق كلامي؟ هذا الرجل يمثل الفطرة الصادقة بكل معانيها، ولا سبيل للتقليد إليه فهو لا يعنى بمطلع خطابه، ولا يعتبر الختام القسم الثالث من الخطبة، بل القبضة الأخيرة التي تخنق الخصم، والعادة أن لا يكرر الخطيب ختامه الواحد في كل خطبة أعدها، أما لاشو فهو في كل قضية يستطيع أن يكرر هذه القبضة الهائلة.
وعلى الجملة أقول إن من لوازم الخطيب أن يستقل بنفسه، ويتبع فطرته ولا يعتد بما مشى عليه غيره أو ألفه سواه، أو جرت العادة أن يقال ويسمع. قد يصل بالتقليد إلى نيل الاستحسان، ولكنه لا يصل إلى السيطرة على الضمائر، وقد صدق تايسيت حيث قال: «خير للخطيب أن يتزمل بردا خشنا من أن يصقل وجهه بطلاء الخطايا.
অজানা পৃষ্ঠা