وقد تكون المعارضة عن إخلاص أو سوء فهم أو حب بالظهور، فإذا أدرك الخطيب ذلك عرف أن يعطي لكل مقام مقالا ولكل جواب حالا.
3
أما المقاطعة فلا يجب أن تخرجه عن جادة الموضوع؛ لأنه لا يخطب لواحد بل لجماعة وليمض في كلامه حتى النهاية، إلا إذا كان حاد الذهن حاضر البديهة فيرد على من قاطعه بكلمة ثم يعود إلى موضوعه، وإذا لم يوفق إلى سرعة الرد فليمر بالاعتراض مر الكرام ذلك خير من أن يقول قولا لا معنى له أو فيه شتيمة وسباب.
لما اعتصب عمال السكة الحديدية في فرنسا، وعددهم يربو على 150 ألفا، لجأ الوزير بريان إلى إصدار أمر بالتعبئة العامة فكانت الواسطة الوحيدة للتغلب على الثورة والضرب على أيدي المعتصبين بدون أن تسفك قطرة دم، وكان ذلك في أثناء عطلة البرلمان، فلما حان انعقاد الجلسة الأولى للدورة الجديدة كانت الأفكار في غليان والخواطر في هيجان، والنواب تتحفز للوثوب معترضة على هذا العمل الاستبدادي في الظاهر، وجاء بريان لتقديم الحساب فعلت الأصوات من كل جانب: «ليسقط الدكتاتور ليسقط الكابورال، فوقف في مكانه جامدا إلى أن أتيح له فرصة ليرفع صوته فصاح بهم: «دكتاتور؟ مسكين أنا. ما لكم أيها السادة إلا أن تقولوا كلمة أو تبدوا إشارة فأترك هذا المنبر بلا أسف وأعود إلى مكاني في صفوفكم خادما بسيطا لهذا الوطن.» كلمات وجيزة ولكنها قوية بمعناها ومطابقتها الحال، فجاءت كالماء على الجمر فهمدت حدة الثائرين، وخمدت ثورة الصائحين وأمكن بريان أن ينطلق في حديثه مبررا عمله، فإذا بالغضب يتحول رضى والجلبة تنقلب سكوتا، والنفور يعود اطمئنانا ، وبعد أن كان هدفا لسهام الناقدين نزل عن المنبر بين الهتاف والتصفيق ومصافحة المهنئين.
ولكن ليس كل الخطباء مثل بريان، ولم يؤت سرعة البداهة كل إنسان، وكم من أصحاب العقول الراجحة من يفتقر إليها؛ فقد كان جاك روسو يقول عن نفسه: «لم أستطع عمري أن أوتي جوابا موفقا إلا ربع ساعة بعد الوقت الملائم.»
والمقاطعة في حادثة بريان وقعت قبل أن يتكلم، ولا أدري هل تكون أشد وقعا لو جاءت في عرض الخطاب فكانت كالصخر الذي يلقى في مصب السيل فتنحرف به حينا عن قصد السبيل. على كل حال ليس على الخطيب من جناح إذا لم يحضره الرد فورا، ولا يلام إلا إذا حاول الجواب؛ فقال ما لا معنى له ولا فائدة منه، مثلا قد يسمع الخطيب مقاطعا يقول: هذا كذب. فيجيبه: أنت الكاذب لا أنا. مثل هذا الجواب أفضل السكوت عليه ألف مرة.
ومن أجمل ما يذكر من المقاطعة عن خطباء العرب ما حكاه صاحب العقد الفريد عن زياد عن مالك بن أنس قال: «خطب أبو جعفر المنصور فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس اتقوا الله. فقام إليه رجل من عرض الناس فقال: أذكرك الذي ذكرتنا به. فأجابه أبو جعفر بلا فكر ولا روية: سمعا سمعا لمن ذكر بالله، وأعوذ بالله أن أذكرك به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، وأما أنت فوالله ما الله أردت بهذا، ولكن ليقال قام فقال فعوقب فصبر وأهون بها لو كانت، وأنا أنذركم أيها الناس أختها! فإن الموعظة علينا نزلت وفينا انبثت.» ثم رجع إلى مكانه في الخطابة.
إن السكوت والتوقف عن الكلام حينا خير من الجواب على المقاطعة؛ إذا لم تأت بمثل هذه البلاغة، ولا سيما إذا كان المقصود منها الإضرار بالخطيب والتشفي. وهذا السكوت الدال على عدم الاكتراث بالمقاطع يعد مقدرة وترفعا محمودا.
وأما إذا كانت المقاطعة للاستفادة والتعمق في البحث، فقد يستطيع الخطيب مواصلة حديثه اكتسابا للوقت مع التفكير في الرد في آن واحد إلى أن يحضره الجواب اللائق الموافق، وهذا من وراء الغاية.
ويستحسن بالخطيب حينما يخلو إلى نفسه أن يعيد في ذهنه ما جرى في الحفلة، وليتذكر موقف الجمهور والمقاطعين، وينظر فيما إذا كان قد أحسن التصرف إزاء هؤلاء وأولئك ففي هذا التفكير درس وعبرة.
অজানা পৃষ্ঠা