كان التركيز ينصب أساسا، حتى الآن، على ما يجعل الخطاب شبيها بالأشكال الأخرى للممارسة الاجتماعية، وأراني الآن في حاجة إلى إعادة الاتزان إلى القضية بالسؤال عما يجعل الممارسة الخطابية خطابية بصفة خاصة. والواضح أن الإجابة، في جانب منها، هي اللغة؛ إذ إن الممارسة الخطابية تتجلى في شكل لغوي، أي في الشكل الذي أشير إليه بمصطلح «النصوص»، وأنا أستخدم «النص» بالمعنى الواسع عند فوكوه، وهو الذي يضم اللغة المنطوقة والمكتوبة (هاليداي، 1978م)، فإذا كان الحادث الخطابي بعدا واحدا من الممارسة الاجتماعية (السياسة أو الأيديولوجية ... إلخ) فإن كونه نصا يعتبر بعدا آخر.
ولكن هذا لا يكفي؛ فإن البعدين يتوسلان ببعد ثالث يركز على الخطاب باعتباره ممارسة خطابية بصفة خاصة، ولا تعتبر «الممارسة الخطابية» هنا تضادا مع «الممارسة الاجتماعية» فالأولى صورة خاصة من الأخيرة. وقد تتكون الممارسة الاجتماعية في بعض الحالات في مجملها من الممارسة الخطابية، وقد تتضمن في حالات أخرى مزيجا من الممارسة الخطابية وغير الخطابية؛ إذ إن تحليل خطاب معين باعتباره قطعة من الممارسة الخطابية يركز على عمليات إنتاج النص وتوزيعه واستهلاكه، وكلها عمليات اجتماعية تتطلب الإحالة إلى أوضاع اقتصادية وسياسية ومؤسسية معينة، وهي التي يتولد فيها الخطاب. فأما الإنتاج والاستهلاك فإنهما يتميزان من زاوية معينة بطابعهما الاجتماعي المعرفي، وذلك لأنهما يتضمنان عمليات معرفية خاصة بإنتاج النص وتفسيره، وهي التي تقوم على المباني والأعراف الاجتماعية المستوعبة (ومن هنا وصف الطابع بأنه اجتماعي). ويتمثل أحد مشاغلنا عند الحديث عن هذه العمليات الاجتماعية المعرفية بتحديد العناصر القائمة في نظم الخطاب، وكذلك في الموارد الاجتماعية الأخرى التي أسميها «موارد الأعضاء» (أي جماع الخبرات الذاتية) التي استعين بها، وكيف استعين بها في إنتاج المعاني وتفسيرها. وأما المهمة الأولى فهي العثور على الروابط الشارحة بين الطرائق (المعيارية أو التجديدية ... إلخ) التي تبنى بها النصوص وتفسر، وكيف تنتج النصوص وتوزع وتستهلك بمعنى أوسع، وطبيعة الممارسة الاجتماعية من حيث علاقتها بالأبنية والصراعات الاجتماعية. والمرء لا يستطيع أن يعيد بناء عملية الإنتاج ولا إيضاح أسباب عملية التفسير استنادا إلى النصوص وحدها، فإنما هي، على الترتيب، آثار ومفاتيح لهذه العمليات، ومن المحال إنتاجها أو تفسيرها إلا على ضوء «موارد الأعضاء». ومن طرائق الربط بين هذا التأكيد على الممارسة الخطابية وعمليات إنتاج النص وتوزيعه واستهلاكه وبين النص نفسه، التركيز على طابع التناص للأخير. انظر قسم «الممارسة الخطابية» أدناه.
شكل 3-1: تصور الخطاب الثلاثي الأبعاد.
والتصور ذو الأبعاد الثلاثة للخطاب يمثله الشكل البياني رقم
3-1 ، فهو يحاول الجمع بين ثلاثة من التقاليد التحليلية، ولا غنى عن أي منها في تحليل الخطاب. وهذه هي تقاليد التحليل النصي واللغوي الدقيق داخل علم اللغة، وتقاليد علم الاجتماع الواسع النطاق والخاص بتحليل الممارسة الاجتماعية في علاقتها بالأبنية الاجتماعية، والتقاليد التفسيرية أو الخاصة بعلم الاجتماع الضيق النطاق، بمعنى اعتبار الممارسة الاجتماعية شيئا ينشط الناس في إنتاجه ويفهمونه استنادا إلى عمليات تقوم على المنطق السليم المشترك. وأنا أقبل الزعم التفسيري بأن علينا أن نفهم كيف ينجح أفراد الطوائف الاجتماعية في إنتاج عوالمهم «المنظمة» أو «المنطقية». وأتصور أن تحليل العمليات الاجتماعية المعرفية في إطار الممارسة الخطابية مكرس في أحد جوانبه لتحقيق هذا الهدف (وإن كنت أقول أدناه إن له أبعادا «واسعة النطاق» وأخرى «ضيقة النطاق»)، ولكنني أقول: إن ممارسات الأعضاء في أثناء إنتاج عالمهم تتشكل بطرائق لا يدركونها في العادة، وإن عوامل تشكيلها هي الأبنية الاجتماعية، وعلاقات السلطة، وطبيعة الممارسة الاجتماعية التي يشتركون فيها والتي تتجاوز غاياتها دائما مسألة إنتاج المعاني. وهكذا فقد تصطبغ عملياتهم وممارساتهم بصبغة سياسية وأيديولوجية، ويمكن أن تضعهم في مواقع «الذوات» (و«الأعضاء»). وأقول أيضا: إن ممارسة الأعضاء تأتي بنواتج وآثار في المباني الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية والصراعات الاجتماعية من حولهم، وهي التي لا يدرون بها في العادة، كما سبق أن قلت. وأقول أخيرا: إن الإجراءات التي يستعملها الأعضاء غير متجانسة بل ومتناقضة، وهي مثار الخلاف في صراعات تتسم في جانب منها بطابع خطابي. فأما الجانب الإجرائي الخاص بتحليل النصوص فيمكن أن يسمى «الوصف»، والأجزاء التي تتناول تحليل ممارسة الخطاب وتحليل الممارسة الاجتماعية التي يعتبر الخطاب جزءا منها يمكن أن تسمى «التفسير» (انظر آخر الفصل السادس؛ حيث يرد هذا التمييز بينهما). (2) الخطاب باعتباره نصا
لا يتكلم المرء حقا عن معالم أحد النصوص من دون إشارة إلى إنتاج النص و/أو تفسيره، وذلك لأسباب أوضحها فيما بعد. وبسبب هذا التداخل، فإن تقسيم موضوعات التحليل ما بين تحليل النص وتحليل الممارسة الخطابية (وهكذا بين الأنشطة التحليلية للوصف والتفسير) ليس تقسيما قاطعا. فحيثما تكن المعالم الشكلية للنص أشد بروزا من غيرها يتضمن التحليل الموضوعات، وحيثما تكن العمليات الإنتاجية والتفسيرية أشد بروزا، تناقش الموضوعات في إطار تحليل الممارسة الخطابية، حتى ولو كانت تتضمن بعض المعالم الشكلية للنصوص. والذي أعرضه تحت هذين العنوانين إطار أو نموذج تحليلي واسع، وسوف يجد القارئ معالجات مختارة أشد تفصيلا للموضوعات التحليلية في الفصلين الرابع والخامس.
من الافتراضات المعقولة التي يمكن تطبيقها افتراض أن أي معلم من معالم النص يمكن أن تكون له دلالة في تحليل الخطاب، ويثير هذا صعوبة كبرى. فتحليل اللغة مجال مركب وذو تقنية خاصة به، وهو يتضمن الكثير من أنماط التحليل وتقنياته، وعلى الرغم من أن التمتع بخلفية في علم اللغة قد يكون، من ناحية المبدأ، شرطا مسبقا لإجراء تحليل الخطاب، فإن تحليل الخطاب نشاط متعدد الجوانب، ولا يمكن للمرء أن يفترض في ممارسة خلفية تفصيلية في علم اللغة أكثر مما تفترض فيه خلفيات تفصيلية في علم الاجتماع أو علم النفس أو السياسة. وفي هذه الظروف فإن ما قررت أن أفعله هو (1) أن أقدم في هذا الفصل إطارا تحليليا بالغ العمومية بغرض تقديم خريطة واسعة النطاق للميدان إلى القراء؛ و(2) أن أحدد مناطق تحليلية مختارة تصلح للمعالجة بمزيد من التفصيل والمزيد من الأمثلة التوضيحية في الفصول 4-6، وهي التي بدت لي شديدة الخصب في تحليل الخطاب، و(3) أن أتجنب قدر الطاقة النبرة المنفرة للطابع التقني والمصطلحات المتخصصة؛ و(4) أن أقدم المراجع اللازمة لمن يرغبون في متابعة مناهج تحليلية بعينها.
وتبدو بعض الفئات الواردة في إطار التحليل النصي أدناه موجهة إلى الأشكال اللغوية، ويبدو غيرها موجها إلى المعاني، ولكن هذا التمييز مضلل؛ لأن المرء دائما ما يواجه في تحليل النصوص مسائل الشكل ومسائل المعنى في الوقت نفسه. ووفقا لمصطلح جانب كبير من علم اللغة والسيمياء (السيميوطيقا) في القرن العشرين، نجد أن المرء يحلل «علامات»، أي كلمات أو قطاعات أكبر من النص تتكون من معنى مرتبط بشكل من الأشكال، أي ب «مدلول» مرتبط ب «الدال» (انظر دي سوسير، 1959م)، إذ إن سوسير وغيره من أصحاب التقاليد اللغوية يؤكدون الطابع «التوقيفي» (أي «التعسفي» أو الذي لا يعلل) للعلامة، ويؤكدون الرأي القائل بعدم وجود دافع أو أساس عقلاني لربط «دال» معين ب «مدلول» معين. وعلى عكس ذلك، تفترض المداخل النقدية لتحليل الخطاب أن العلامات لها دوافع اجتماعية، أي إنها تقول بوجود أسباب اجتماعية للربط بين دوال معينة بمدلولات معينة (وأنا ممتن للباحث جونتر كريس على مناقشاته لهذه القضية). وقد يتعلق الأمر بالمفردات، بمعنى أن صيغتين مثل «الإرهابيين» و«المكافحين في سبيل الحرية» نموذجان متضادان للربط بين الدال والمدلول، والتضاد بينهما ذو دافع اجتماعي، وقد تكون له علاقة بالنحو (انظر الأمثلة أدناه) أو بأبعاد أخرى للتنظيم اللغوي .
ويتعلق تمييز مهم آخر في إطار المعنى بالفرق بين ما يمكن أن يعنيه النص وبين تفسيره، إذ تتكون النصوص من أشكال أدت الممارسات الخطابية في الماضي - بعد تكثيفها في صورة أعراف - إلى إكسابها معاني ممكنة. والمعاني الممكنة لأي شكل غير متجانسة بصفة عامة، فهي مركبات من معان منوعة متداخلة بل ومتناقضة أحيانا (انظر فيركلف، 1990م، أ) بحيث تزخر النصوص في العادة بمعان بالغة التضاد، وتسمح بتعدد التفسيرات. وعادة ما يلجأ المفسرون إلى تقليل إمكانية التضاد المذكور باختيار معنى محدد أو مجموعة صغيرة من المعاني البديلة، وما دمنا غير غافلين عن اعتماد المعنى المذكور على التفسير، فلنا أن نستعمل مصطلح «المعنى » في الإشارة إلى المعاني الممكنة لكل شكل، وأيضا للمعاني التي يأتي بها التفسير.
ويمكن تنظيم تحليل النص في أربعة أبواب رئيسية، وهي: «المفردات»، و«النحو»، و«التماسك»، و«بناء النص». ويمكن اعتبار هذه ذوات نطاقات صاعدة، فالمفردات تتناول الألفاظ المفردة أساسا، والنحو يتناول الجمع بين الألفاظ في عبارات وجمل، والتماسك يتناول كيفية الترابط فيما بين العبارات والجمل، وبناء النص يتناول الخصائص التنظيمية الواسعة النطاق للنصوص. وإلى جانب ذلك فأنا أميز بين هذه وبين ثلاثة أبواب رئيسية أخرى سوف تستخدم في تحليل الممارسة الخطابية لا التحليل النصي، وإن كانت تشمل بالقطع بعض المعالم الشكلية للنصوص، ألا وهي «قوة» الكلام المنطوق، أي ما تشكله من أفعال الكلام (الوعود، الطلبات، التهديدات ... إلخ)؛ و«ترابط المعنى» في النص؛ و«التناص» فيما بين النصوص. وهذه الأبواب السبعة مجتمعة تمثل إطارا لتحليل النصوص بحيث يشمل جوانب إنتاج النص وتفسيره، وكذلك الخصائص الشكلية للنص.
অজানা পৃষ্ঠা