ولما كان عمر اليوم ينتصف، وقد بلونا من بعد المشقة ما لا نصف، وتخلصنا من ذاك الكمد، شارفنا دار عبلة في السند. واستقبلنا عبلة ولو رسانة، وأنخنا الركائب بطاهر فنيانة، بقعة حطها من النعم موفور، وبلدة طيبة ورب غفور، حللناها ومنادى العجماء يعرف، والشمس يراودها المغرب، وقد عظم أثر الهياط والمياط، وسطا الكلال بالنشاط. وبتنا والشيح وسائد مضاجعنا، وشكوى التعب حلم هاجعنا.
واستقبلنا المنهج الأمثل، والسهل الذي يضرب به المثل، بساط ممدود، ومن البحور الأرضية معدود، ولم يكن إلا كخطفة بارق، أو خلسة سارق، حتى تقلص الظل وطوى منشوره طي السجل.
واستقبلنا مدينة آش حرسها الله، وقد راجعت الالتفات، واستدركت ما فات، فتجلت المخدرات، وقذفت بمن اشتملت عليه الجدرات، وتنافس أهلها في العدة والعديد، واتخاذ شكك الحديد، فضاق رحب المجال، واختلط النساء بالرجال، والتف أرباب الحجا بربات الحجال، فلم نفرق بين السلاح والعيون الملاح، ولا بين حمر البنود وحمر الحدود، وبتنا بازائها ونعم الله كافله، ونفوسنا في حلل السرور رافلة. حتى إذا ظل الليل تقلص، وحمام الصبح من مخالب غرابه قد تخلص، سرنا وعناية الله ضافية، ونعمه وافية.
فنزلنا بوادي فردس، منازلنا المعتدة، وقلنا رجع الحديث إلى قتادة، وبها تلاحقت وفود التهاني، وسفرت وجوه الأماني. نزلنا منه بالمروج فتفتحت بها أزهار القباب البيض في بساطها العريض، وخطرت ببالي مقطوعة في مخاطبة المولى أنجح الله عمله ويسر من فضله أمله، أثبتها على حكم الاستعجال. وأوصفت على بيوتها خيل الارتجال:
إذا سرت سار النور حيث تعوج ... كأنك بدر والبلاد بروج
لك الله من بدر على أفق العلا ... يلوح وبحر بالنوال يموج
تفقدت أحوال الثغور بنية ... لها نحو أبواب القبول عروج
وسكنتها بالقرب منك ولم تزل ... تهيم هوى من قبله وتهيج
مررت على وعد من الغيث بينها ... فمنظرها بعد العبوس بهيج
فكم قلعة قد كلل النور تاجها ... ورف عليها للنبات نسيج
ولا نجد إلا روضة وحديقة ... ولا غور إلا جدول وخليج
أبو سف دم للدين تحمى ذماره ... إذا كان للخطب الأبي ولوج
بفتية صدق إن دجا ليل حادث ... فهم سرج آفاقهن سروج
بقيت قرير العين ما ذر شارق ... وما طاف بالبيت العتيق حجيج
وبتنا نتعلق بأنفاس الحضرة العاطرة، ونستظل بسمائها الماطرة، ونعلن بالاستبشار، ونحن إلى الأهل حنين العشار:
وأبرح ما يكون للشوق يومًا ... إذا دنت الديار من الديار
فلما تبسم زنجي الليل عن ثغر الفجر، وشب وليد الصبح عن عقد الحجر، ولحظتنا ذكاء بطرفها الرمد، وقد بقي الليل فيه بقية الإثمد، استقبلنا الحضرة حرسها الله فأنست النفوس بعد اغترابها، واكتحلت العيون بإثمد ترابها، واجتلينا من فحصها الكريم الساحة، الرحب المساحة، ما يبهر العين جمالا، ويقيد الطرف يمينًا وشمالًا، أم البلاد والقواعد، وملجأ الأقارب والأباعد، تعدت مقعد الوقار، ونظرت إلى الأرض بعين الاحتقار، ومدت إليه البلاد أكف الافتقار، نصبت من الجبل منصة تعدت عليها، وقامت وصائف القرى في ذلك البساط بين يديها، فمن ذا يدانيها أو يداريها أو يناهضها في الفخار ويجاريها، وهي غاب الأسود، والأفق الذي نشأت فيه سحاب الجود، وطلعت به من الأمراء السعداء نجوم السعود، سيدة الأمصار، أو دار الملوك من أبناء الأنصار، ومصرع الطواغيت والكفار والغمد الذي استودع سيوف الله دامية الشفار ولله در بعض شيوخنا وقد عبر عنها ببيانه، واعتذر عن بردها في أوانه حيث يقول:
رعى الله من غرناطة متبوأ ... يسؤ كئيبًا أو يجير طريدًا
تبرم منها صاحبي عندما رأى ... مسالكها بالبرد عدن جليدًا
هي الثغر صان الله من أهلت به ... وما خير ثغر لا يكون برودًا
وصلناها والجو مصقول كالفرند، والسماء كأنها لصفائها مرآة الهند، أخرج الحلي من الإحقاق، وعقد أزرار الحلل على الأعناق، واطلع أقمار الحسن على الآفاق، وأثبت فخر الحضرة بالإجماع والاصفاق، على دمشق الشام وبغداد العراق.
1 / 7