فليتها لا تزال آوية
وليته لا يزال مأواها
كل جريح ترجى سلامته
إلا فؤادا رمته عيناها
ما نفضت في يدي غدائرها
جعلته في المدام أفواها
ولما كان على نحو أربعة أميال من شيراز أرسل عضد الدولة وجوه دولته لاستقباله، وبلغ القصر في هذا الموكب الحافل فأحسن عقد الدولة لقاءه، وأنشده أبو الطيب قصيدة نال عليها أجزل الصلات وأنفس الهدايا. وكان من شهود الحفل أبو علي الفارسي وعبد العزيز الجرجاني، وهما من كبار رجال اللغة والأدب، وأقام في ذرا ممدوحه زهاء ثلاثة أشهر كان فيها موضع الإكرام والحفاوة، ولكنه كان ضجرا كثير القلق، يمل النعيم وينزع إلى المخاطر، ولقد كان يعبر عن نفسه حقا حين قال:
أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان
فلما طغت عليه السآمة دخل على عضد الدولة واستأذنه في السفر وألح، ولم يجد الرجل بدا إلا أن يأذن له، وعاد المتنبي إلى داره فأخبر ابن حمزة ومحسدا بعزمه، وأمر مفلحا أن يستعد بعد ثلاثة أيام، فقال مفلح : سأعد كل شيء يا سيدي غير أني أود أن أخبر مولاي بأمر يزعجني، وقد يكون تافها، وقد يكون من وساوس نفسي. - ما هو؟ - رأيت قبل أن نرحل من أرجان أعرابيا يطوف حول دارنا ويكثر التلفت والنظر، فلم آبه له ولكني عدت فرأيته هنا بالأمس فسألته عن شأنه، فقال: إنه رجل فقير رحل من العراق إلى فارس طلبا للرزق، ولكنه لم يجد عملا، ثم سألني عن موعد عودة سيدي إلى العراق، فلما قلت له: إني لا أعلم، وأظهرت الريبة في أمره، قال: إنه لا يملك راحلة، وإنه يطمع في أن يحمله سيدي معه إلى العراق، وإنه لذلك يسأل عن موعد سفره، فزجرت الرجل وأبعدته عن الدار. - لا أرى من بأس في أن نحمل الرجل. فقال ابن حمزة: لا تتسرع يا أبا الطيب، فقد يكون الرجل نذير شر، وقد يكون جاسوسا عليك من أعدائك بعثوا به إلى فارس ليخبرهم بيوم رحيلك إلى العراق. - هراء. إنني أتسلح بشجاعتي لا أبالي بمن علم بمقامي أو رحيلي. على أن المتنبي قد ساوره شيء من الخوف. وطافت بنفسه ذكريات ضبة وخاله فاتك، ولكن هذا الخوف لم يدم طويلا، فهز كتفيه في استخفاف، ثم طلب إلى مفلح أن يعد ورقا وأقلاما، وقام إلى حجرته فكتب قصيدة يودع بها عضد الدولة، وركب إليه في الصباح وأنشده القصيدة، فأجزل عطاءه وأحسن توديعه. وبينما كان المتنبي وصحبه وعبيده يستعدون للرحيل إذ لمحوا فارسا على جواد أشهب يسبقهم إلى طريق العراق، فصاح مفلح: هذا هو الأعرابي الذي كان يحوم حول دارنا بأرجان فقال محسد: ويل للوغد. حقا إنه كان يترقب موعد سفرنا ليعوف الطريق الذي نسلكه. وقال ابن حمزة: هذا هو الذي ظننته. وامتطى المتنبي جواده وهو يقول:
অজানা পৃষ্ঠা