عرف المتنبي حياة الصحراء وأخلاق الأعراب في طليعة صباه، حينما كان يتنقل بين القبائل في بادية الكوفة ليتلقى اللغة من أفواه رجالها، ثم عرف الصحراء حينما أقام طويلا في بادية السماوة بالشام بين بني كلاب؛ لهذا لم يكن على الصحراء دخيلا، ولم يكن عن عادات الأعراب بعيدا.
سار الركب في هذا البحر المائج الخضم بالرمال، وذلك التيه الذي يضل فيه الخريت ويزوغ البصر، وفي تلك الموماة التي يقول في مثلها أبو الطيب: «يهماء تكذب فيها العين والأذن». وقد طمست الأعلام، وانمحت الصور، وزالت الآثار، ولم يبق إلا أن يعتمد الضارب فيها على الشمس أو بعض نجوم السماء. فضاء فسيح كأنه أمل الأحمق، وأرض مجدبة كأنها كف الشحيح، وصخر أصم كأنه قلب اللئيم، ورمال صفر كأنها بطون الحيات. إنها أرض من الأحلام وجو من الأوهام، جفت فيها الحياة وجفتها الحياة، فلا نبات ولا عشب، ولا شوك ولا قتاد، لا يمر بها طير إلا خائفا عابرا، ولا وحش إلا منطلقا واجفا، كأنها نسيت عند خلق الطين والماء فليس بها أثر للطين ولا قطرة من الماء. تبدو الكثبان بها وسنى مكدودة تمد رؤوسها إلى السماء كأنها تتضرع طالبة الفرار، وتبدو الوهاد بها مظلمة مخيفة كأنها أشداق الأسود. جفوة وشقاء ومحول وجمود وقسوة، ثم صمت ورعب وسكون هو سكون الموت، ووحشة القبور.
سار المتنبي يتقدم ركبه في هذا التيه، ولم يبق في صدره من الآمال الضخام إلا أمل واحد ضئيل خافت هو أن يعيش، هو أن يستطيع أن يخترق هذه الصحراء وفيه ذماء من حياة، هو أن ينجو بجلده من هذا الخطر الداهم والبلاء الواقع، لم يبق من مطامعه أن يكون أميرا أو ملكا، ولم يبق من آماله أن يكبت أعداءه ويدوس بقدمه فوق آنافهم، ولم يبق من وساوس نفسه أن يترك في الدنيا «دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر» طارت كل هذه الأحلام أمام عظمة الصحراء ومخاوفها؛ لأن الصحراء كالبحر الهائج المضطرب ترتعد لهوله الحياة، ويتوارى عنده الأمل، وتخشع النفوس.
وبدا القمر موشكا على الاكتمال فلف الصحراء في غلالة من نور، وكان المتنبي فوق صهوة جواده يرمي طرفه هنا وهناك، كما ينظر الصقر من قنته إلى ما حوله من فضاء فسيح، وكان يهمهم بكلمات تقطعها زفرة حينا، وزمجرة أحيانا، فقرب منه محسد، وقال: ألا نحط الرحال هنا يا أبي فقد انتصف الليل وكلت الرواحل؟ - إن سير الليل أروح للعبيد والدواب، وكلما بعدنا عن الفسطاط زال الحذر وسرنا في أمن واطمئنان. - إننا نسير في طريق لم تطأها قدم مسافر، فمن أين ليد كافور أن تمتد إلينا؟ - إنني أشعر بشيء من الراحة كلما بعدت الشقة بيني وبين الأسود؛ لأنني أريد أن أنسى أني رحلت إلى مصر وأني قصدت الأسود، ويخيل إلي أن بين المسافات والفكر اتصالا، وأنه كلما شسعت المسافات بينك وبين شيء قل تفكيرك فيه. - اترك كافورا يا أبي لشأنه، فأنت أعظم وأنبل من أن تحقد على الرجل أو تلقي لمثله بالا. - لن يفلت من يدي هذا الوغد الذي جعل مني أضحوكة للشعراء والأمراء. إن أباك يا محسدا إذا مست كبرياؤه فقد مس منه مكان السم في الأفعى. انقل عني يا محسد وأذع:
وأسود أما القلب منه فضيق
نخيب، وأما بطنه فرحيب
إذا ما عدمت الأصل والعقل والندى
فما لحياة في جنابك طيب - يلوح لي أنك تخفف بهجائه عن نفسك بعض ما تجد. - نعم يا بني إن هجاءه يروح عن نفسي، ولا بد للمصدور أن ينفث، وللحزين أن يرسل الدموع. - حقا لقد أساء إليك، وأغرى بك حثالة الشعراء، ومسترزقة العلماء. كنت منذ شهر أسير بخطة مسجد عبد الله مع الشريف إبراهيم العلوي، فقابلنا الشيخ المعتوه الموسوس محمد بن موسى الذي يلقبونه بسيبويه، وكان على حماره، وهو لا ينزل عنه لأمير أو عظيم، فسلم عليه الشريف، ولما عرفه بي صاح: أنت ابن المتنبي! أهلا أهلا بابن شاعر الغبراء! لله أبوك فإنه يأتي في شعره بالعجب العجاب. بالله سل أباك يا بني عن قوله في كافور:
يقل له القيام على الرءوس
وبذل المكرمات من النفوس
অজানা পৃষ্ঠা