وانفلت زمام المرأة من بين يديها فأجهشت في البكاء، وقالت بصوتها الباكي: هلا رحمتني يا رشدي!
فقال بحدة: الله لا يريد أن يرحمنا.
وبعد ظهر ذاك اليوم - وبعد عودة الوالد من مسجد الحسين وأحمد من الوزارة - حدث الرجلان رشدي حديثا طويلا يهونان به من أثر ما وقع، ويؤملانه خيرا منه، حتى بدا في النهاية أنه يعيرهما أذنا واعية ويتأسى بما يقولان، ورأى أحمد أن نفقات التداوي ستضحى، بل أضحت بالفعل، أكثر مما تتحمله نقود الشاب التي انكمشت إلى ربع مرتب وستنقطع بعد حين، وأنه لن يغني عنه ما عسى أن يعينه به من مرتبه المثقل، فقال له: رشدي، أنت الآن خير حالا مما كنت في الماضي القريب، وأظنك تحتمل البقاء في المصحة، أفلا يحسن بك أن تنتقل إليها لتظفر بجو وعناية لا يتوافران لك ها هنا؟
فقال الشاب وقد اقشعر بدنه لتذكر المصحة وعهدها: ليس في طوقي الآن أن أعود إلى الدرجة الثانية ، ومحال أن أرضى بالانتقال إلى عنابر الدرجة الثالثة. - أليست عنابر الدرجة الثالثة بخير من حجرتك هذه هواء ودواء؟
فهز رأسه الذي بدا كبيرا جدا بالنسبة إلى عنقه الرفيع وقال: الحياة هناك فظيعة، وأحوال المرضى مخيفة، كفاك الله شر المرض.
فلم يزد أحمد كلمة واحدة، وعند المساء، وكان رشدي وأمه كعادتهما يراوحان بين الحديث وبين سماع الراديو المترامي إليهما من المقاهي المحيطة، قدم المذيع طبيبه الذي كشف عليه أول مرة إلى الجمهور «.. يلقي عليكم محاضرته الأولى عن السل.» فارتعشت أمه لسماع الاسم الذي يقض مضجعها، أما رشدي فانتبه بعناية وأرهف أذنيه، ولم يكونا وحدهما اللذان يرهفان أذنيهما في تلك الساعة، فالأب في حجرته رفع رأسه عن القرآن ومال برأسه نحو النافذة، وغاب أحمد عن حديث الصحاب في الزهرة ليلقي بانتباهه كله إلى الراديو خافق الفؤاد، وتكلم الدكتور عن تاريخ كشف ميكروب المرض، والأدوار التي يمر بها، ووصف كل دور بإسهاب، ثم تكلم عن مسألة زواج الناجين من الداء، وما ينبغي أن ينتظره أصحاب كل دور من أعوام، واقترح في النهاية أن تنشأ الحكومة للناجين من الدور الثالث قرى في صحراء حلوان تكون بمثابة معازل يقضون فيها شطرا من أعمارهم أو العمر كله. أصغت الأسرة متفرقة إلى المحاضرة، فأخفت الأم عينيها الدامعتين، وتنهد الأب وعاد إلى كتابه، أما أحمد فبكى قلبه وهو يتظاهر بالسرور بما يقول المعلم نونو، ولازم رشدي الصمت، ومضى يستعيد ما سمع، فغمرته فجأة ذكريات حياته، الشباب الطروب واللهو العابث والحب الساحر، وصور سريعة متزاحمة من الوجوه والأماكن والربوع، فتآكل صدره حسرة، وهوى من ربوة الأمل إلى هاوية القنوط، ونسي وجود أمه فهتف بائسا: «رباه إذا كانت مشيئتك قد قضت بأن ينتهي بهذا الداء أجلي، فأسألك الرحمة بالتعجيل به.» وارتاعت أمه، ونظرت إليه بعتاب وهي تقول: رشدي!
فنظر إليها مبتسما ابتسامة حزينة وقال بلهجة تهكمية: الغالب أنك لن تفرحي بعرسي كما تودين!
ولما رآها تجهش في البكاء، غلبه التأثر، فوجم .. وقال بأسف: معذرة يا أماه .. لشد ما أقسو عليك يا مسكينة. حرمت عليك النوم والطعام وسودت أيامك، وها أنا ذا أعذبك بهذياني، فاللهم غفرانك.
46
واستيقظ في صباح اليوم الثاني أهدأ نفسا وأهدأ قلبا، ولما جاء أحمد عليه طلب إليه أن يعيره القرآن، وأتى الرجل بالكتاب الشريف فتناوله الشاب بسرور، وسأله: أليس من الحرام أن ألمسه ولما أستحم منذ أشهر؟!
অজানা পৃষ্ঠা