فقال أنيس بنفس اللهجة الجدية: اسع إلى الطبيب بلا إبطاء.
ولم يلق الرجل صعوبة ما، بل ساوره الخوف والقلق لسرعة موافقة الطبيب على طلبه.
وعاد إلى أخيه، وحزم متاعه، وعجز رشدي عن خلع بيجامته وارتداء البدلة، فاكتفى بلبس الروب، وجاءوا بنقالة لحمله إلى المصعد. وسار أنيس بشارة في وداعه حتى الباب الخارجي للمصحة، وشد على يده بحرارة، ودعا له مخلصا بالشفاء والصحة، ورأى أحمد شقيقه يستسلم لأيدي حامليه بلا حول ولا قوة وقد زاغ بصره، وبدا للعين هزاله، فذكر نضارته وحسنه، ورشاقته ونشاطه وفكاهته وغناءه، ثم لم يملك أن يعض على شفته متوجعا متحسرا وقد شعر بقلبه ينتحب باكيا في أعماق صدره.
42
ووجدا في انتظارهما في البيت الوالدين وأسرة كمال خليل أفندي، وكانت الست توحيدة ونوال جاءتا لزيارة أم الشاب المريض، فلما علمتا بأن شقيقه سافر ليأتي به لبثا في انتظار وصوله. وأحدث ظهور رشدي أثرا عميقا في النفوس فلم يحاول أحد إخفاء انزعاجه، ولكن الشاب لم يبد عليه أنه أدرك شيئا مما حوله، أو أنه فطن إلى وجود أحد، وأجلس على فراشه وصدره يعلو وينخفض، مغمض العينين، والأعين محدقة به، وقد انعقدت الألسنة، واصفر وجه الست دولت وارتعشت أطرافها ، فهرعت إلى فراشه، وجلست وراء ظهره لتسنده بصدرها المضطرب. وفتح رشدي عينيه بعد برهة وأجالهما في الحجرة والوجوه، فلاح فيهما نور العرفان واليقظة، وارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة خفيفة، وقال بصوت متهدج خفيض كأنما يتصاعد من أعماق صدره: الحمد الله ... الحمد الله ... أنا مسرور بعودتي إلى حجرتي.
فدعا له الجميع، وكررت الست توحيدة الدعاء، فابتسم الشاب وقال: سأشفى هنا بإذن الله .. لا تبرحي مكانك يا نينة!
فقبلته المرأة في منكبه وقالت: لن أبرحه يا رشدي بإذن الله - إن قلبي لا يمكن أن يكذبني!
والتقت عيناه بعيني نوال مرات، وتلقى في كل مرة ابتسامة حلوة ضمنتها عيناها ما تكنه جوانحها من الدعاء والرجاء والإشفاق، وتنحى أحمد جانبا دون أن تفارق عيناه وجه شقيقه، وكلما طالع في عينيه نظرتهما الذابلة ارتعش كيانه وقال لنفسه: «اللهم رحمتك!»
وقال عاكف أفندي أحمد - الأب - عن حكمة: الأوفق أن نتركه حتى يسترد أنفاسه ويستريح!
فخرجوا جميعا ما عدا أمه وانصرفت الزائرتان، وخلا أحمد إلى نفسه في حجرته قليلا، ولكن لم يستطع صبرا فعاد إلى حجرة الشاب، ووجد رشدي لا يزال فرحا بالعودة ويحادث أمه قائلا بصوته المتهدج الخافت: لشد ما يطمئن قلبي فرحا وسرورا، ولشد ما آلمني جو المصحة الموحش، لم أذق فيها النوم ولا الطعام، ورأيت مريضا ينزف حتى غرق في دمه، ومروا بحجرتنا حاملين مريضا آخر إلى حجرة «العزلة» حيث يودعون المرضى المشرفين على النهاية .. ومن المؤسف حقا أن سوء حالتي آلم زميلي أنيس بشارة، ويغلب على ظني أنه استثار مخاوفه فجعل يبكي حزنا وفرقا. الآن عاودتني الطمأنينة.
অজানা পৃষ্ঠা