فأدرك أنها تحاول الإفلات من الطوق الذهبي الذي طوق جيدها به، ولكنه لم يمكنها من مأربها وقال: لا تغيبي عن الحديث، سنتعارف حتما بعد حين، أو سنتم تعارفنا فلم يبق منه إلا اسمي، ولكني أريد أن أقول إنه إذا لم يكن حب (وتعمد أن يذكر هذا اللفظ كأنما جاء عفوا) من أول نظرة فلا حب على الإطلاق!
وتعوذت بالصمت مرة أخرى وهو يلحظها مبتسما، ثم استدرك: لا أعني أن الحب يحدث حتما من أول نظرة، ولكن النظرة الأولى تكفي لاكتشاف من تربطهم بنا صلة روحية عسية أن تصير الحب نفسه! أليس يقولون إن الأرواح تتخاطب بغير إحساس البتة؟! فنظرة واحدة تبلغ بالروح فوق ما تريد .. أما الحب الذي تلده الأيام وتنبهه المعاشرة فمرجعه على الغالب العادة أو المنفعة، أو غيرهما من القيم التي لا تدرك إلا بالروية والإمهال، فماذا ترين؟
فترددت هنيهة ثم سألته كالمتحيرة: أتقول إنه لا يوجد ... (ولم تنطق بكلمة الحب) إلا من أول نظرة؟! فأدرك أنه ثرثر أكثر مما ينبغي، وخاف مغبة تفسير كلامه فقال باهتمام: كلا ليس هذا ما أعنيه، وإنما أعني أن النظرة الأولى خليقة بالدلالة على الغاية التي عسى أن تهدف إليها العاطفة.
فضحكت ضحكة رقيقة وقالت: فلسفتك عسيرة، فلا هي من التاريخ ولا هي من اللغات!
واستغرق الشاب ضاحكا بسرور أخذ بمجامع قلبه، وود في تلك اللحظة لو يستطيع تقبيل الفم الصغير الذي تسيل جوانبه بهذه الحلاوة المشتهاة، وقال: بل هي أسهل من التاريخ أو اللغات لأنها فلسفة الفطرة الصادقة، وأصدق دليل على ما أقول إننا التقينا بوحيها ولن نفترق إلى الأبد إن شاء الله.
وكانا قد بلغا عند ذاك منتصف الطريق، فلاحت على يسارهما طلائع مدينة القبور خاشعة تحت كآبتها الأبدية، ينبعث من قوائمها هدوء شامل عميق، وصمت مخيم ثقيل، فرمقتها بعينيها النجلاوين، ثم قالت لتداري الخجل الذي سعره حديثه المطرب: قضي علي أن أستصبح كل يوم برؤية هذه القبور، فيا له من منظر لا يسر!
وتساءل الشاب عما يضطرها إلى قطع هذا الطريق الطويل مشيا على الأقدام في الذهاب إلى العباسية وفي الإياب منها، ولماذا لا تستقل الترام عن طريق الخليج، ثم ابتده الحقيقة فأدرك أنها ترضى بهذا التعب - أو رضي لها به أبوها - توفيرا لنفقاتها، فكمال خليل أفندي يعتبر من صغار الموظفين، وممن يكافحون بعزيمة صادقة - في ظروف دقيقة - للنهوض بأسرهم، وذكر أن أسرته اجتازت يوما مثل هذه الشدة وعلى رأسها شقيقه المحبوب يذود عنها البأساء بصبر وجلد، فتندى قلبه عطفا ومحبة وتقديرا، ثم قال لها مبتسما: لن تريها بعد اليوم!
فرمته بنظرة إنكار وتساءلت: كيف؟ هل أسير معصوبة العينين؟ - بل سيشغلنا الحديث عن النظر إليها!
فضحكت ضحكة رقيقة وقد أدركت ما يعنيه، وقالت: ولكنه سفر شاق ولن تحتمله طويلا. خصوصا والشتاء قريب! - سنرى!
وأوغلا في السير فلم يعودا يريان إلا صحراء على اليمين وقبورا على الشمال، ومرا بطريق يشق القبور ويمتد غربا، فأشار رشدي إلى مقبرة خشبية ذات فناء صغير، تقع على جانب الطريق الأيمن ثالثة المقابر وقال: مقبرتنا!
অজানা পৃষ্ঠা