وهنا التفت أحمد راشد نحوه وقال بلهجة ساخرة قل أن يصطنعها في حديثه: وما الداعي إلى العجب في ذلك؟ أليس المال كالشباب والجمال من المزايا التي تحبب الرجل إلى المرأة؟ بل لعل المال أن يكون أبقى على الدهر من الآخرين!
وسرعان ما أقلع الشاب عن السخرية وقال بلهجته الجدية: إن شيخا في سن عتة بك لا يطمع في الحب الذي يستأثر به الشباب، لكنه إذا ضم إليه عروسا نفيسة أرضى بها غريزة الحب المضمحلة، وغريزة الملكية المسيطرة.
فقال عباس شفة: الشباب ينتقل بالعدوى، فالشيخ خليق بأن يكتسب من عروسه روحا من نضارة الشباب، فلا يبعد والحال كذلك أن يتحول البيك في القريب العاجل من قرد إلى حمار مثلا!
فتساءل المعلم زفتة: هل نفهم من هذا أن أصلك قرد!
ولم يوافق المعلم نونو على التهكم بالشيخوخة بطبيعة الحال فقال: العبرة في السن بالصحة لا بالسنين؛ فأبي تزوج في الستين وخلف، وهاكم سيد عارف أفندي على سبيل المثال (وضحك ضحكته المجلجلة) فماذا صنع له شبابه؟
وضحك الجميع - وعاكف معهم - مما جعل سيد عارف يقول: لا تضحك يا معلم نونو فعما قريب يتغير الحال، وقد علمت بأقراص جيدة تجرب، وسترى!
ولم يستطع أحمد عاكف أن يوليهم انتباهه أكثر من ذلك، فكان كالسابح الذي تخور قواه وتوهي مقاومته فيغوص تحت سطح الماء، فلم يدر كيف انتقل بهم الحديث إلى أخبار الحرب، ولا كيف راح سيد عارف يعدد انتصارات الألمان في روسيا، ويذكر بالفخار سقوط فيازما وبريانسك وأوريل وأوديسا وخركوف، واقتحام شبه جزيرة القرم، ثم نهض المعلم نونو للذهاب إلى المسجد لصلاة الجمعة، فاستأذن الكهل وانصرف معه راجعا إلى البيت، ووقف في الصالة هنيهة متسائلا ترى أما يزال رشدي ملازما حجرته؟ وسار في الدهليز متمهلا حتى دنا من باب الحجرة فشم رائحة التدخين النافذة من خصاصة الباب، ثم قفل راجعا إلى حجرته لأول مرة يمضي رشدي يوم عطلة في البيت! بل الأوفق أن يقول يوم عطلتهما، والمرجح أنه لم يفارق حجرته وأنها لم تزايل النافذة، والله يعلم كم تحيات تبودلت، وكم من بسمات ومضت، وكم من آمال أشرقت، وخلع ملابسه وارتدى الجلباب والطاقية، وجلس على الشلتة القريبة من المكتبة، كان مترعا بالكآبة، ولكن خلا قلبه من الغيرة - أو الغيرة السافرة على الأقل - وقال لنفسه إن ما يحدث في الناحية الأخرى من الشقة لهو أطفال غير حقيق باهتمامه، أهذا شعور وقتي؟ لا يدري، ولكن خيل إليه أنه شفي، وتساءل كيف حدث هذا بمثل هذه السرعة، أكانت عاطفته سطحية توهم أنها الحب؟ واستراح إلى شعوره، ومد يده إلى المكتبة واستخرج كتاب مقاصد الفلاسفة للإمام الغزالي، فهذا أحق بتفكيره، وهو من الكنوز التي لا يدري أحمد راشد عنها شيئا، وفتح الكتاب عن فصل الإلهيات، وحاول مطالعة مقدمة تقسيم العلوم، ولكنه أدرك بعد برهة قصيرة أنه يبذل من الجهد في تركيز انتباهه ما لا يدع له بعد ذلك لذة في متابعة القراءة، فأغلق الكتاب وأعاده إلى مكانه، وقال إنه لا بأس من أن يعفي عقله اليوم مكافأة له على الجهد - أيا ما كان هذا الجهد - الذي بذله في سبيل النسيان، كانت عاطفة تافهة، بل كيف كان يمكن أن تسعده تلك الفتاة وهو على ما هو عليه من عقل ومعرفة، وهي على ما هي عليه من بساطة وسذاجة؟! حقا أنقذه شقيقه من ورطة كادت تودي به، ومنذ الآن ينبغي أن يفتح عينيه، وأن يقلع بصفة نهائية عن التفكير في الزواج، وهيهات أن يجد امرأة كفاء له! بيد أن الخيانة ذميمة شوهاء، ألم تغازله؟ ألم ترض به حبيبا؟ فكيف تغيرت بمثل هذه السرعة التي لا تصدق؟! حقا ما يهمه أن يعرف شيئا ولا يعبأ شيئا، ولكن هل خلق الله أقبح منظرا من فتاة ذات وجهين؟! شفي والله ونسي، ولكن ما أتفه الدنيا إذا كانت القلوب تنقلب في غمضة عين! وقطع عليه أفكاره المحمومة صوت دوي يصيح: «ملعون أبو الدنيا.» فأدرك أن المعلم قد عاد من صلاة الجمعة إلى دكانه، ونهض مسرورا بالتخلص من أفكاره إلى النافذة المطلة على الحي الجديد ففتحها، ووقف وراءها يسرح الطرف في مناظر الحي التي ألفها وملها، ليتهم ما غادروا السكاكيني؛ بل وجد نفسه يتمنى في أعماقه لو أن أخاه لم ينقل من أسيوط! فلو لم يحضر لما عكر صفوه معكر، وما لبث أن تألم لتمنيه هذا غاية الألم، إنه يحبه ما في ذلك من شك. ولا يمكن أن يفتر حبه لأخيه وابنه وربيبه .. ولكن الغريب المنكر أنه يحبه ويكره وجوده معا! لو لم ينقل إلى القاهرة لكان - أحمد - الآن في عداد الخاطبين، وما يدري إلا ونفسه تسكب تحنانا للحياة الزوجية غافلة عن هواجسها السالفة! فبدا له أن العدد اثنين هو العدد المقدس، ليس العدد الواحد بالمقدس كما يقول الفيثاغوريون ولكنه الاثنان! الإنسان يفقد نفسه في الجماعة، ويغرق الكآبة في الوحدة، ولكنه يجدها عند أليفه، فالتكاشف الصريح، والحب العميق، والألفة الممتزجة، وفرحة القلب بالقلب، والطمأنينة اللانهائية لذات عميقة لا تحدث إلا بين اثنين، وكم مل الكآبة، وضجر من الوحشة، وكره الفراغ، وهذه نفسه تنازعه مشوقة متلهفة إلى الحب والحنان والألفة والمودة، أين ثغر يبسم إليه مشرقا بالعطف؟ أين قلب يرجع خفقان قلبه خفقة خفقة؟ أين صدر يرضع منه قطرات الطمأنينة ويعهد إليه بطويته؟ وبلغ منه القهر منتهاه فتراجع إلى الفراش محسورا وهو يحرك رأسه بعنف، كأنما ليصد عنه أحاسيس الحزن والخور، وليسترد حقده وصرامته وغضبه وإيمانه الوحشي بالوحدة والعجرفة والتعالي عن العواطف البشرية، وقد تبرد الغيرة، وتخمد العاطفة، أما ما يمس كبرياءه فيحدث حتما قرحة لا تندمل، وكيف تندمل وكلما التأمت قشرها غروره الأعمى؟! ولذلك جعل يقول قارضا أسنانه: «ينبغي أن تدرك - الفتاة - أنني تنازلت عنها بغير مبالاة البتة!»
26
واستيقظ غداة السبت متعبا بعد ليلة مسهدة، فهو يؤدي ثمن اليقظة التي فرح بها قلبه، وإن كانت يقظة قصيرة ، وأيا ما كان فما دام النسيان يكمن وراء الأحزان فالعزاء مرجى، أين اليهودية الحسناء وحبها المثالي؟! فالزمان يسحب ذيول النسيان على الماضي ويبلع الذكريات، ولكن لا ريب أنه مما تطيب به نفسه ألا يعبأ شيئا، أو أن يتظاهر بذلك على الأقل، وأن يريها أنه لم يكد يشعر بأن فتاة هجرته، ومضى إلى الحمام فوجد باب حجرة شقيقه مواربا، ولمحه يستكمل ارتداء ملابسه - وقد عجب لذلك لأن الشاب كان يستيقظ عادة متأخرا عنه - بل رآه رافعا رأسه إلى النافذة الأخرى، فتقبض قلبه كأنما أصابته شكة إبرة، وأسلم رأسه للماء البارد طويلا لينعش أعصابه المحطمة، ثم عاد إلى حجرته وارتدى بذلته، وخرج إلى السفرة ليحسو قهوته ويدخن سيجارته ويتناول لقمته البسيطة، وكان وطن النفس على لقاء الشاب بما يعهده منه من الأنس به مستعينا بما طبع عليه من مداراة ما يعتلج بنفسه، وأقبل رشدي مرتديا البدلة والطربوش وابتسم إليه ابتسامته المحبوبة فقال: صباح الخير. - صباح النور.
وعجب أحمد من لبسه الطربوش إذ كان يفطر عادة عاري الرأس فسأله: لماذا عجلت بلبس الطربوش؟
অজানা পৃষ্ঠা