وضحك رشدي ضحك إنسان حرم شهود هذا المجلس عاما بغير نقصان، ولبثوا يشربون ويتسامرون حتى وافت التاسعة، فنهضوا إلى بهو اللعب المحبوب، وفي تلك الليلة ربح رشدي مبلغا كبيرا - أو هكذا يعد بينهم - فبلغ ربحه قبيل منتصف الثانية عشرة، ثلاثة جنيهات، وأضاف إليها ثلاثين قرشا حين شارفت الثانية عشرة - وهو موعد انتهاء السهرة - ثم انفضوا من حول المائدة، وبدا أثناء اللعب فرحا مسرورا، لأنه ممن تقرأ سرائرهم على صفحات وجوههم، وجعل يترنم بصوت حنون كالمناجاة، ولم يمسك عن الترنم حتى حين صاح به أحد الخاسرين: «اصمت يا أخي فصوتك يهيج أعصابي!» وعلى أثر انطلاقهم في الطريق اقترح أحدهم قائلا: ما رأيكم في أن نكمل اللعب في بيتنا؟
فقالوا في صوت واحد: وهو كذلك!
فسأل المقترح رشدي قائلا: وأنت؟
فقال الشاب ضاحكا: أوافق تحت شرط أن تطلقوا لي حرية الغناء!
ومضوا إلى بيت الداعي في شارع أبو خوذة، وهيئوا المائدة، واستأنفوا اللعب بنهم لا يعرف الشبع، ودفئت الحجرة المغلقة النوافذ بأنفاسهم، والتهب الكحول بأفئدتهم، فتصببوا عرقا، وعندما دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل قال بعضهم: حسبكم لعبا وإلا قضينا نهار العيد الأول نائمين!
فكفوا عن اللعب، وقد خسر رشدي ربحه جميعا وثلاثين قرشا أخرى!
وقال له أحدهم متهكما: كيف لم تتمتع بما منحناك من حرية الغناء؟!
وضحكوا جميعا، فدارى بكياسته غضبه وجاراهم في ضحكهم، وودعهم عند ذاك ومضى إلى العباسية، وقد انقطعت المواصلات جميعا، مدلجا من طريق الحسينية، ووجد الطريق خاليا والسكون مطبقا والظلام جاثما، وكان جسده ساخنا مبتلا بالعرق وحلقه يابسا، فاصطدم برطوبة كثيفة يزفرها الخريف بغزارة - خاصة - في الهزيع الأخير من الليل، وما عتم أن سرت في أطرافه قشعريرة باردة، ولسعت البرودة صدره، وزكم منخره، وكانت ليلة السرار وقد احلولك غبشها، وضاعف من غلظه انتشار سحاب دثر النجوم الساهرة، فلاحت المنازل القديمة على جانبي الطريق كأشباح جالسة القرفصاء ذاهبة في سبات عميق، وجعل يحدث نفسه: أما كان الأجدر أن يعتذر عن عدم المضي معهم إلى البيت؟ ولكن هيهات أن يلهم الحكمة يوما ما! بيد أن أسفه كان ضعيفا كإرادته سواء بسواء، فالمقامر المدمن يلقى الخسارة عادة بهدوء ولن يعدو الأمر في نظره التسليم في يومه وعقد الرجاء بغده، وتنبه إلى طول الطريق وقذارته فتأوه مغيظا محنقا، ولما بلغ مدخل خان الخليلي ذكر وصف شقيقه للطريق «ثاني ممر على اليمين وثالث باب على اليسار» وتلمس سبيله في الظلمة حتى انتهى إلى العمارة، ومضى إلى حجرته بأقدام خفيفة وأضاء المصباح، وما إن وقعت عيناه على النافذة المغلقة حتى تذكر النافذة التي تشرف عليها من عل، وجاد ثغره بأول ابتسامة صادقة منذ منتصف الليل، وطاف بمخيلته الوجه الأسمر المليح، فتأسى عن هموم الليلة جميعا، وتمتم قائلا: «إذا كان سوء الحظ مؤلما فحسنه غير منكور.» وغير ملابسه، ودلف من مكتبه فاستخرج من أحد أدراجه كشكول مذكراته، وجلس ليدون خاطرة، قبل النوم ...
19
وكان الأب أول المستيقظين، فتوضأ، ثم غادر البيت حين الفجر ميمما المسجد لصلاة العيد، فاستقبل أول نسمة من نسمات اليوم الجديد، ورأى الفجر الجميل يضج بجموع القاصدين، يخوضون أمواجه البنفسجية الحالمة مسبحين بحمد الله العلي.
অজানা পৃষ্ঠা