واعتزم الحب حقا، ولكنه لم يدر له بخلد أي طعنة وجهها - باعتزامه - إلى سعادة شقيقه الأكبر الذي يحبه ويجله.
18
وأسلم جسده للرقاد بعد ليلة شاقة - قضاها في القطار - فلم يطرق النوم فيها جفنيه إلا لماما، واستيقظ من نومه العميق عند منتصف الرابعة مساء، فجلس في الفراش متثائبا مفتحا عينيه - لأول مرة منذ عام - على نور القاهرة الضاحك. تذكر أمر نقله من أسيوط فطاب نفسا واستلذ الذكر، وكانت تغشى الحجرة سمرة قاتمة فنهض إلى النافذة وفتحها، وذكر لتوه الفتاة السمراء المليحة، فصعد بصره إلى نافذتها، ولكنه وجدها مغلقة، فغادر الحجرة إلى الخارج وكان أبوه نائما، وأمه تنظف السمك تهيئة لقليه، فوقف على عتبة المطبخ يحادثها قليلا، ثم مضى إلى حجرة أخيه، وكان الكهل واقفا وراء النافذة فلما شعر بمجيء أخيه تحول عنها بسرعة - ولم يدر الآخر كم كلفه ذلك - وتلقاه بابتسامة حلوة، ثم جلسا معا، أحمد على الشلتة ورشدي على الكرسي.
وتحادثا حديث أخوين متحابين جمع بينهما اللقاء بعد أن كانا شتيتين. ذكر رشدي ما علم قديما من رغبة شقيقه في التأليف فسأله: ألم تشرع في التأليف يا أخي؟
فوخزه السؤال، ولكنه لم يعي بالجواب فقال: رأسي مترع بالمعارف، فأيها أختار وأيها أدع! والحقيقة أنني لو أردت التأليف ففي وسعي أن أملأ مكتبة كاملة! ولكن ما الداعي لمثل هذا الجهد؟ .. هل يستأهل هذا الشعب التأليف بمعناه الحق؟ .. هل يمكن أن يهضمه؟ إلا أنهم رعاع يقرءون رعاعا!
فقال رشدي وكان يؤمن بما يقول أخوه دائما: خسارة أن تضيع أفكارك القيمة!
فقال أحمد وكان يؤمن كذلك بما يقول، كأنه نسي ما يدور بينه وبين أحمد راشد من نقاش: أنا من السابقين لزمنهم، فلا يرجى لي أي تفاهم مع الناس، فلكل شيء في الدنيا عيوب حتى التعمق في العلم! - ولكن هل ترضى يا أخي أن يضيع هذا الجهد العظيم بلا أثر ينتفع به الناس؟!
فسر الكهل بكلامه سرورا عوضه عن ترك النافذة منذ حين، وقال: من يعلم يا رشدي؟ فعسى أن أعدل عن استهانتي يوما ما!
ولبثا يتحدثان حتى انطلق آخر مدفع إفطار، ثم جمعتهم مائدة رمضان الأخيرة فقدمت صحاف السمك التقليدي وأكلوا مريئا وشربوا هنيئا. وبعد شرب القهوة مباشرة ارتدى رشدي بدلته وغادر البيت لا يلوي على شيء، وقد أراد أن يصل إلى كازينو غمرة في الوقت المناسب، أو بمعنى آخر أن يبلغه قبل أن يتحلق أصحابه - وهم يجتمعون بالكازينو كل مساء للشراب ولعب الورق - المائدة الخضراء، وفي التعجيل حكمة لا تخفي على من كان مثله، فليس من شأنه أن يجد مكانا حول المائدة فحسب، ولكن اللاعبين - كذلك - إذا انهمكوا في اللعب لم يحفلوا باستقبال قادم ولو كان قدومه بعد فراق عام كامل! وأجمل ما يجودون به تحية مقتضبة وعيونهم لا تفارق الورق، فإذا اضطروا إلى قطع اللعب لمجاملة قاسرة فويل للقادم من لعن ضمائرهم وسخط سرائرهم، وفضلا عن هذا فالداخل على لاعبين - أثناء لعبهم - يعد يمنا على الفائزين وشؤما على الخاسرين، فلن يخلو الحال قط من أن يجد فريقا يرمقه شزرا. وقد اكتسب بعض إخوانه - بسوء المصادفات - سمعة سيئة، منهم محام شاب يقول عنه الصحاب إنه إذا وجد بمقربة من لاعبين خسروا جميعا ولم يربح أحد! والمقامرون شديدو الحساسية، كثيرو الوساوس، يؤمنون بالطيرة ويعبدون الحظ، وقد استقل ترام الأزهر والذكرى ترجع به إلى زمان تلقينه مبادئ المقامرة، كان ذلك وهو في أولى سني دراسته بكلية التجارة، فدعي إلى اللعب على أنه تسلية بريئة للفراغ، ثم رأى أن يراهنوا على ملاليم، لا لمطمع في ربح؛ لأن المليم عملة تافهة، ولكن لتأريث الحماس وبعث الاهتمام، وسرعان ما صعدت الأرقام حتى أتت على ما في جيوبهم جميعا، واستبدت بهم شهوة اللعب استبدادا نساهم الوقت والواجب والمستقبل، فالقمار تسلية مخيفة ولذة أليمة وشهوة مجنونة، هو معابثة الغيب، ومراودة الحظ، وطرق باب المجهول، ودغدغة غرائز الخوف والهجوم والتطلع والمجازفة والطمع، ثم إنه بعد ذلك صدى لذاك الشعور - شعور كفاحنا اليومي - المستمد مما نبذله من قوة وتقدير في معالجة الحياة، وما نخاطب به الأقدار المسيطرة علينا، وما نرجوه من الحظ والظروف الملابسة لنا، وما يتعاقبنا من الظفر والخسران، ولكم تمنى في أحايين كثيرة لو لم يفارق المائدة طوال عمره! ومن عجب أنه ما من مرة فصل عن المائدة - في ختام ليلة متعبة مرهقة - إلا وتمنى لو يتوب الله عليه، فإذا أزف الميعاد في اليوم الثاني هرع إلى الكازينو لا يلوي على شيء، وهكذا تمكن الداء العضال منهم جميعا وانقلب القاتلون للوقت ضحايا! وصار واحدا من المقامرين في عبادة الحظ والخضوع للطيرة، فربما قال لنفسه وهو يهم بفتح النافذة في الصباح: «إذا لقيت عددا زوجيا من السابلة فالحظ معي أما إذا كان فرديا فاليوم خسارة!» أو ربما حادث نفسه وهو ماض إلى مائدة الإفطار: «إذا وجدت فولا بسمن فاليوم رابح أو فولا بزيت فاليوم خاسر !» وانقطع تيار الذكريات عندما غادر الترام، ثم استقل الترام رقم10، فجرى به في الطرق المؤدية إلى حيه القديم، فاستثار حنانه، ولما شارف السكاكيني شعر بألم نبيل ووجد شريف يقرضان في شغاف قلبه، وغادر الترام واتجه إلى الكازينو، وفي المكان المعهود من الحديقة رأى الأصدقاء - أو رأى أشباحهم لأن الظلام كان تاما - فأدرك أنه وصل في الوقت المناسب - قبل أن يذهبوا إلى بهو اللعب - وأخذ يقترب منهم مبتسما حتى صار في وسطهم، فعرفوه وصاحوا معا: رشدي عاكف! أهلا بقلب الأسد!
وسر بسماع لقبه العزيز - وقد عرف به بين اللاعبين لكثرة مجازفاته - وتعانقوا عناقا حارا، وكانوا جميعا - مثله - في منتصف العقد الثالث، منهم من زامله في المدرسة أو من نشأ معه في السكاكيني، وكانوا جميعا في المجون والإباحية والاستهتار والعربدة شخصا واحدا. قال أحدهم: أهكذا لا نراك إلا مع العيد وقد كنا لا نفترق ليل نهار!
অজানা পৃষ্ঠা