فقال رشدي مبتسما: لكم أدهشني انتقالكم إلى الحسين!
وهنا بلغا فناء المحطة فأمسكا ريثما استقلا عربة، ونقد الشاب الحمال أجرته ثم سارت العربة سيرتها الثملة المريحة تخترق ميدان المحطة المترامي الأطراف، فأجال الشاب فيه عينيه العسليتين الجميلتين، فتخاطفت السيارات والعربات والترامات والمارة ناظريه، فنقر بإصبعه على جبهته وقال: يكاد رأسي يدور، وكأني أرى الترام والمترو لأول مرة. أتذكر نادرة الريفي الذي جاء مصر لأول مرة فلما أشرف على هذا الميدان ريع وفزع، ثم تراجع إلى القطار وهو يقول متأسفا: «جئت متأخرا فأهل البلد يرتحلون!»
فضحك أحمد الذي تلذه فكاهة الشاب ونوادره وبساطته، ومن حسن الحظ أن رشدي لم يكن «جامعيا» بالمعنى العميق - فلا يطرق موضوعات العلم ولا يذكر اصطلاحاته - وإلا لوجد فيه نوعا من «أحمد راشد»، وأجمل من هذا أن الشاب كان من المخدوعين في ثقافة أخيه فظنه عالما متفقها وآمن بعقله كما يؤمن به الآخر، أما أحمد فسر بإيمان شقيقه به، ورأى فيه رمزا حيا لإيمان الجامعة المصرية بعبقريته العصامية! قال الشاب بحماس: القاهرة نعمة من نعم الله، هي الدنيا والدين، الليل والنهار، الجحيم والجنة، الغرب والشرق، كان النقل معجزة! - لا بد أنك ضقت ذرعا بأسيوط! - كما ينبغي أن أضيق ذرعا بأي مكان غير القاهرة!
فتفحصه بنظرة ثاقبة وقال: السجن مفيد لأمثالك، ومع ذلك فإني لا أرى آي الراحة في وجهك!
فابتسم الشاب عن أسنان بيضاء منتظمة وقال كالساخر: إذا اجتمع موظفان في بلدة كانت مائدة القمار ثالثهما!
فتنهد أحمد قائلا: أقضي أن تحرم من نعمة النوم أبدا؟! - نعمة النوم؟! .. النوم في الحقيقة نقمة! .. إنه اختلاس جزء طويل لا يقوم بمال من حياتنا القصيرة! - أنت لا تدري مما تقول شيئا! - أنت يا أخي رجل حكيم، وأنا شاب مجنون، وهذه هي فلسفة المجانين. - إذن ستعود إلى ... - بإذنه تعالى! ... قابلت في أسيوط رجلا مولعا بالضحك كان يقول إن غذاء الصحة الحقيقي هو المرح، فإذا صح ذلك فالعربدة من أنفس الفيتامينات! - وإذا لم يصح؟! - فلندع الله أن يكون صحيحا، ولكن قل لي متى كنت سمينا؟! - أنت تعلم أني لا أكف عن التفكير والدراسة! - هذا حق، وربما كانت النحافة أيضا طبيعة في أسرتنا! - ووالدتك؟!
فضحك رشدي حتى بدت نواجذه، وخلع طربوشه عن شعر أسود لامع ينشق وسطه عن مفرق أبيض جميل، وقال وقد رقق الحنان نبرته: ولكنها صناعة العطار! كم شاقتني رؤيتها! أما تزال تذكر الزار؟
فقال أحمد بتأفف: كفت عن ذكره صراحة، ولكنها ربما شكت - عرضا - قسوة من حالوا بينها وبينه! - أمنا لطيفة كالملائكة لأنها لا تغضب، ولا أكاد أذكرها إلا راضية أو ضاحكة.
فابتسم أحمد، واستطرد رشدي: والعفاريت عقيدة وإن لم يتفق لي رؤية أحدها على طول عهدي بالطرقات المقفرة في الهزيع الأخير من الليل. - الإنسان هو شر العفاريت، انظر إلى الحرب!
فضحك رشدي، وذكرته الحرب بأمر الانتقال من السكاكيني، فقال: هكذا أجبرنا الإنسان العفريت على هجر حينا القديم، يا عجبا ... ألا تعلم يا أخي بأنه لم يسبق لي أن رأيت خان الخليلي هذا!
অজানা পৃষ্ঠা