وانتهى إلى ميدان الأزهر، واتجه إلى خان الخليلي يتسمت هدفه الجديد، فعبر عطفة ضيقة إلى الحي المنشود؛ حيث رأى عن كثب العمارات الجديدة تمتد ذات اليمين وذات الشمال، تفصل بينها طرقات وممرات لا تحصى، فكأنها ثكنات هائلة يضل فيها البصر، وشاهد فيما حوله مقاهي عامرة ودكاكين متباينة - ما بين دكان طعمية ودكان تحف وجواهر - ورأى تيارات من الخلق لا تنقطع، ما بين معمم ومطربش ومقبع، وملأت أذنيه أصوات وهتافات ونداءات حقيقة بأن تثير أعصابا قلقة كأعصابه، فتولاه الارتباك واضطربت حواسه، ولم يدر أيان يسير، فدنا من بواب نوبي اقتعد كرسيا على كثب من أحد الأبواب وحياه ثم سأله قائلا: من أين الطريق إلى العمارة رقم «7» من فضلك؟
فنهض البواب بأدب وقال مستعينا بالإشارة: لعلك تسأل عن الشقة رقم 12 التي سكنت اليوم؟ انظر إلى هذا الممر، سر به إلى ثاني عطفة إلى يمينك فتصير في شارع إبراهيم باشا، ثم إلى ثالث باب إلى يسارك فتجد العمارة رقم «7».
فشكره وانطلق إلى الممر مغمغما «ثاني عطفة إلى اليمين» .. حسنا ها هي ذي .. وها هو ذا ثالث باب إلى اليسار، العمارة رقم «7»، وتريث قليلا ليلقي نظرة على ما حوله. كان الشارع طويلا في ضيق، تقوم على جانبيه عمارات مربعة القوائم تصل بينها ممرات جانبية تقاطع الشارع الأصلي، وتزحم جوانب الممرات والشارع نفسه بالحوانيت؛ فحانوت ساعاتي وخطاط وآخر للشاي ورابع للسجاد وخامس رفاء وسادس للتحف وسابع وثامن ... إلخ إلخ، وتقع هنا وهناك مقاه لا يزيد حجم الواحدة على حجم حانوت ، وقد لزم البوابون أبواب العمارات بوجوه كالقطران وعمائم كالحليب وأعين حالمة كأنما خدرتها الروائح العطرية وذرات البخور الهائمة في الفضاء، والجو متلفع بغلالة سمراء كأن الحي في مكان لا تشرق عليه الشمس، وذلك أن سماءه في نواح كثيرة منها محجوبة بشرفات توصل ما بين العمارات، وقد جلس الصناع أمام الحوانيت يكبون على فنونهم في صبر وأناة ويبدعون آيات بينات من أفانين الصناعة، فالحي العتيق ما يزال يحتفظ لليد البشرية بقديم سمعتها في المهارة والإبداع، وقد صمد للحضارة الحديثة يلقى سرعتها الجنونية بحكمته الهادئة، وآليتها المعقدة بفنه البسيط، وواقعيتها الصارمة بخياله الحالم، ونورها الوهاج بسمرته الناعسة. قلب فيما حوله طرفا حائرا وتساءل ترى هل يستطيع أن يحفظ هذا الحي الجديد كما كان يحفظ حيه القديم؟! وهل يمكن أن يشق سبيله يوما وسط هذا التيه تقوده قدماه وقد انشغل فكره بما ينشغل به من أمور دنياه؟ ثم اقتحم الباب مغمغما: «بسم الله الرحمن الرحيم» وارتقى درجات سلم حلزوني إلى الطابق الثاني حيث عثر بالشقة رقم «12»، وابتسمت أساريره لرؤية الرقم كأنه قديم عهد به وآنس إليه في وحشته، ودق الجرس، فانفتح الباب، وظهرت أمه على عتبته تلوح في ثغرها ابتسامة ترحيب، وأوسعت له مستضحكة وهي تقول: «أرأيت إلى هذه الدنيا العجيبة!» فجاز الباب وهو يقول مبتسما: «مبارك عليك البيت الجديد!» فضحكت عن أسنان مصفرة لأنها كانت مولعة بالتدخين كابنها وقالت بلهجة المعتذر: قصارى ما وسعنا اليوم أن نفرش حجرتك وحجرتنا ... وكان يوما متعبا حقا، ولقد كسرت قائمة أحد الكراسي على ما بذلنا من حرص، وتقشر مسند سريرك في بعض المواضع.
ووجد أحمد نفسه في صالة صغيرة مزدحمة بأحزمة المتاع والمقاعد وقطع الأثاث، وضعت السفرة في وسطها وحملت بالآنية ولفات الأبسطة، وكان بها بابان على يمين الداخل وفي مواجهته، فنظر فيما حوله في صمت، أما الأم فراحت تقول: الله يعلم أني لم أذق للراحة طعما في يومي هذا، فيا لشقاء الأم التي لم تنجب أنثى تستعين بها عند الحاجة، ولقد هربت أنت إلى وزارتك وقبع أبوك في حجرته كعادته، ولم يتورع - غفر الله له - أن سألني منذ هنيهة عما هيأت لكم من طعام؟ كأنما يسأل ساحرة تقدر على كل شيء! ولكن من حسن الحظ أن حينا الجديد غني بمأكولاته السوقية، ولقد أرسلت الخادم لتبتاع لنا طعمية وسلطة وباذنجانا ...
فتحلب ريق أحمد لسماع اسم الطعمية ولاح الرضا في بريق عينيه، ثم سأل أمه: وهل ارتاح أبي واطمأن؟
فابتسمت المرأة ابتسامة لطيفة دلت على أن بلوغها الخامسة والخمسين لم يفقدها كل ما كان لها من دلال أنثوي، وقالت: ارتاح واطمأن والحمد الله، وعسى أن يصدق رأيه، ولكن الشقة صغيرة والحجرات ضيقات، فحشرنا الأثاث فيها حشرا، و«اللي انكتب على الجبين لازم تشوفه العين»!
وجعل يصغى إلى أمه ويتفحص ما حوله، فرأى ردهة تمتد على يسار القادم، وعلى يمينها تقع حجرتان، وفي الناحية المقابلة المطبخ والحمام، وقد أشارت أمه إلى الحجرة التي تواجه باب الشقة الخارجي وقالت له: «حجرتك». أما حجرتا الردهة فقد أعدت أولاهما لنوم والديه، وقالت أمه عن الأخرى: «سنحتفظ فيها بأثاث أخيك ونتركها خالية على ذمته».
ومضى الرجل إلى حجرة والده فرأى الشيخ مقتعدا سريره تلوح في عينيه نظرة هدوء واستسلام، وكان عاكف أفندي كابنه طويلا نحيفا، ذا لحية كثة بيضاء، وقد وضع على عينيه عوينات غليظة بعثت في نظرته الذابلة بريقا خداعا، وقد حدج ابنه بحذر وريبة وتوثب لرد العدوان إذا حدثت الرجل نفسه بالتهكم به بسبب النقل إلى البيت الجديد، وحياه أحمد وقال له: مبارك يا أبتي!
فقال الشيخ بهدوء: الله يبارك فيك. كل شيء بأمره!
فهز أحمد رأسه وقال: ولكننا بالغنا في خوفنا مبالغة تنكبت بنا عن جادة الصواب، ألا ترى يا أبتي أن ما بين السكاكيني وخان الخليلي أدق من أن يدركه الطيار المحلق في السماء؟!
অজানা পৃষ্ঠা