زلزلته هزة عنيفة، فغض بصره ليخفي عينيه عن الجرسون، وتابع الرجل قائلا: اتصل بالمدير، عرفه بنفسه، وسأله هل يوجد في الحانة أحد يسأل عنه؟
لم يجد بدا من الانتقال إلى التليفون وهو يتخبط في ذهوله وارتباكه. - آلو. - أنا زيد زيدان زيدون. من حضرتك؟ - إني قادم إليك في الحال وشكرا.
هكذا أنهى المكالمة بلباقة، دون أن يفطن أحد إلى ما دار فيها، وقرر أن يغادر المكان فورا تفاديا من وقوع مضاعفات جديدة، غادره وهو يترنح من الذهول والوجل والفرح.
لم يكن له من حديث فيما تلا ذلك من أيام إلا محمد شيخون الماوردي وزيد زيدان زيدون. قال البعض إنها مصادفة، مصادفة خارقة، ولا شيء وراء ذلك، وما أكثر المصادفات في دنيانا، ألا تذكر كيف تزوج رئيس القلم؟ ألا تذكر كيف قتل جارك في ليلة العيد؟ ألا تذكر كيف تولى وزير وزارة العدل لانطباق اسمه على اسم آخر كان هو المقصود بالوزراة؟! وقال آخرون إنها ظاهرة عجيبة حقا، ولكن يمكن إخضاعها للتفسير الطبيعي، فالأسماء الغريبة مأخوذة من مخزون الذكريات البعيدة، وغير مستحيل أن الرجلين كانا يجلسان على مقربة منك، وأن اسميهما لاطما وعيك - رغم انشغالك طوال الوقت بدورق النبيذ - فلما أغراك العبث بتلفيق اسمين وجدتهما طافيين على سطح شعورك أو عالقين بمسمعك، ولا غرابة بعد ذلك في دعوات التليفون، فهي مما تقع كل يوم في المقاهي والحانات!
إذن، فهي إما أن تكون مصادفة خارقة جدا، وإما أن تكون ظاهرة طبيعية جدا.
لا هذا ولا ذاك أرضاه؛ إنه يطمح إلى تفسير جديد يواكب انفعاله المحلق فوق الطبيعة، تفسير خليق بأن يرفعه درجات، بأن يغير وجه حياته، بأن ينتشله من هموم الحياة ومآزقها، ومن حسن الحظ أن كان لشيخ الزاوية رأي آخر، هو وحده الذي استعاده الحكاية مرات، وقرب منه وجهه وهو ينظر في أعماق عينيه، وقال: أتريد رأيي بالحق والصدق! .. أنت فيك شيء لله!
وامتحن أثر قوله في وجهه، ثم تابع: لا عجب لذلك، فأنت رجل طيب، ولا تفوتك صلاة الجمعة.
وتفكر الشيخ قليلا، ثم قال: ولكن أين اكتشفت الموهبة؟ في حانة! ألا تدري ماذا يعني هذا؟ - كنت أتناول عشائي ليس إلا. - ولو، إنه امتحان وتحذير.
فسلم برأيه حتى لا يشتت تيار أفكاره. فتابع الرجل: وهناك معنى لا يجوز أن يخفى عليك! - ما هو يا ترى؟ - إن من يوهب كنزا، فعليه أن يستثمره لخير الناس ولخيره.
وتركه الشيخ لنفسه، روى له بعض سير الأولياء، ونوه ببعض الكتب، ثم تركه لنفسه وقرر هو أن يبدأ بالمعرفة، فراح يطالع الكتب المأثورة. كلفه ذلك مالا، ولم يكن يملك فائضا منه، ومشقة في الاستيعاب، ولم يكن من المدربين على القراءة العسيرة، ومن بادئ الأمر لم يلق من زوجه تشجيعا. الحادثة عجيبة حقا - قالت - ولكنها لا تعني أكثر من ذلك، مثلها كمثل العجائب الكثيرة التي تقع بين كل مطلع شمس وغروبها. ما كان يجوز أن يجعل منها نادرة في كل مجلس، ألا يخشى أن يصير هو في النهاية نادرة المجالس! وما كان يجوز أن يجعلها شغله الشاغل، أن يقبع بسببها في حجرته ليقرأ ويقرأ، مهملا واجباته الحقيقية في هذه الحياة. وضرب كفا بكف وهو يقول: هذا هو منطق المرأة! وهل كان ينتظر رأيا أفضل من امرأة؟! وفضلا عن ذلك كله فإن قسوة المعيشة قد أفسدت تفكيرها، وألصقتها بتوافه الأرض.
অজানা পৃষ্ঠা