دراسة الفنون
جميع الفنون هي نظر أو سلوك نتسامى فيها بما ورثنا من كفايات طبيعية، فالمشي من الطبيعة، والرقص من الفن؛ لأننا قد تسامينا بحركة المشي إلى الإيقاع الموسيقي في الرقص.
ونحن نتحدث في كلام مرسل، ولكننا حين ننقل هذا الكلام إلى الشعر نحس جمالا هو جمال الفن.
والفن هو التعبير البشري عن الإدراك الروحي؛ ولذلك فإن الفلسفة والدين يعدان من الفنون البشرية؛ لأننا نستطيع مثلا أن ننظر إلى الكون نظرا ماديا مؤلفا من الأرقام والكيمياء والطبيعيات، وليس هنا فن، ولكننا حين ننظر إليه نظرا فنيا نتجاوز الأرقام والكيمياء والطبيعيات إلى ما وراءها من معاني الشعر والموسيقا والإيقاع، فنجد الفلسفة والدين.
وفي الإنسان رغبات وشهوات وغرائز ومطامع، ونستطيع أن نتوخى الهدف المادي لهذه جميعها، وعندئذ لنا فيها شيء من الفن، فنحن حين نجوع ونشتهي الطعام، أو حين نحس الرغبة في الجنس الآخر، أو حين نطمع في الامتلاك أو ننقاد لغريزة الخوف العادية، في كل هذه الأشياء قد يجري تصرفنا على المستوى المادي، فلا نصل إلى الإدراك أو الوجدان الروحي.
ولكن الإنسان، منذ خرج من أسر الغابة، لم يقنع بالماديات، وتاريخ الحضارة يمكن أن يكون إلى حد ما تاريخ الانتقال أو التطور من النظر المادي إلى النظر الروحي، فالمائدة المتمدنة هي متعة للنفس كما هي متعة للمعدة، ونحن لا نقنع فيها بأن نشبع أيضا من أدواتها الفنية وزهورها وأطباقها وحديث المجتمعين حولها، وكذلك ليست بيوتنا لإيوائنا من الحر والبرد، بل هي أيضا - أو على الأقل نحن نتوخى فيها أن تكون - متاحف حافلة بما يعجب العين ويمتع النفس.
واشتهاء الجنس الآخر، إذا سار على المستوى المادي فإنه يخلو من الفن، ولكن لم يقنع الإنسان قط بهذا، فإنه ارتفع من هذا النظر المادي إلى النظر الروحي، فنشأ من الشهوة حب، وحفل تاريخ الإنسان بأقصيص الحب التي نقرأها وننشدها أشعارا كأنها تراتيل الدين.
وفي عصرنا رأينا القمرة الفتوغرافية تنقل الصور بأسلوب مادي ونظر مادي، فلا نجد وراء الصورة معنى روحيا، وهذا هو الفرق بين الرسم الذي يؤديه الرسام، ويرى من خلال ما يرسمه معاني روحية، وبين الصورة الفتوغرافية الصماء.
وقد ينظر رجل العلم المادي إلى البئر فيبحث الماء هل هو عذب أم ملح، سليم أو وبيء، ولكن رجل الفن يرسم أشعة الشمس التي تنكسر في هذا الماء وتنعكس ألوانا زاهية وجمالا فاتنا.
والحضارة العالية هي مجموعة من الفنون التي تربي الذوق وتمتعنا بإحساس الطرب في رؤية أدواتها واستعمالها، وإذا انحطت الحضارة انحطت فنونها إلى صناعات لكسب العيش فقط، وعندئذ تنخفض إلى مستوى الضرورة، فتصير الحياة للبقاء بالحصول على الضروريات كما هي مثلا حياة فلاحنا البائس الآن.
অজানা পৃষ্ঠা