والجريدة أو المجلة التجارية، كما هي خاضعة لإعلانات التجار، كذلك هي خاضعة للإعلانات التي تحصل عليها من الأحزاب، فكي نقرأ الجريدة أو المجلة بفهم وتمييز، يجب أن نقدر هذه العوامل الخفية، وأن نزن الخبر أو المقال أو الصور في ضوء هذه العوامل.
كما يجب علينا أن نقدر على الدوام أثر الإيحاء من التكرار، ويجب أن نسأل عن المال الذي يدور به دولاب الجريدة، ومن أين مأتاه؛ فقبل سنوات مثلا أفلست إحدى شركات التأمين، فلم ينشر هذا الخبر في الجرائد في مصر مع أن كثيرا من قرائها كانوا يملكون أسهم هذه الشركة، وترك هؤلاء المساكين على جهل بهذا الإفلاس حتى تخلص غيرهم من حاملي هذه الأسهم ووقعوا هم في الإفلاس أو الخسار؛ وذلك لأن وراء هذه الشركة شركة أخرى كانت تنتفع بالإعلان عنها في الجرائد المصرية.
وعندنا غوغاء من المجلات الأسبوعية هي شر ما يمكن أن يتناوله قارئ كي يثقف ذهنه ويربي نفسه، وهي نوعان: أحدهما للقيل والقال عن الشواطئ والسباق ولهو الأغنياء، والآخر يرصد صفحاته للثقافة العربية القديمة ويكاد يقتصر عليها، وكلاهما مضر؛ لأن الأولى تفسد الذهن بإيحاءات تبعث اهتمامات وعادات سخيفة في القراء، والثانية لا تفتأ تكتب المقالات في الدعوة إلى مجتمع شرقي آسن، وإلى النفور من المجتمع الغربي الناهض، حتى لقد بلغ بأحد الكتاب البارزين أن يقول في إحدى مقالاته فيها في سنة 1942:
يرحمك الله يا أبي لقد كنت لا تشتري حذاء جديدا إلا بعد أن تجربه على رءوس زوجاتك ... إنه يفخر بشرقيته!
وهذا المعنى للمجتمع الشرقي الذي يدعو إليه هذا الكاتب هو الذي يجب أن يكافحه كل رجل بار بالمرأة والأمومة، وليس على هذا الكوكب شرق وغرب، وإنما عليه أمم منحطة وأمم راقية.
والجريدة أو المجلة الحسنة هي التي تنزع إلى الفلسفة، وتنبه الضمير، وتستفز الذهن إلى التفكير، ولو كانت مخالفة لآرائنا، وإذا تحرى القارئ الانتفاع والارتفاع بالجريدة فإنه لا بد مستغن عن كثير مما يطبع وينشر، وهو إذا كان عارفا بلغة أجنبية فإنه يجب أن يشترك في الجرائد والمجلات الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية؛ كي يتصل بالعقل العام على هذا الكوكب، ولكنه حتى مع امتيازه هذا محتاج إلى قراءة جريدة يومية عربية على الأقل، فعليه أن يختارها مع العناية، ويدرس أغراضها الخفية الظاهرة، وعليه أن يحاسب نفسه من وقت لآخر عن الإيحاءات السيئة التي ربما تلتبس بها لأنه يقرأ أخبارا لم يتنبه إلى الدعاية المختفية وراءها، وعليه أن يذكر أن هناك «أكاذيب سلبية» هي تلك الأخبار التي منعت الجريدة نشرها، كما حدث في خبر الشركة التي أشرنا إليها.
أما كيف نختار الجريدة، فإننا قبل كل شيء يجب أن ننظر إليها كما ننظر إلى مدرسة أو مكتبة مفيدة تخدمنا في رقينا، فيجب على الأقل أن يكون بها كاتب عصري مستنير يفهم التيارات الاجتماعية والاقتصادية التي تكتسح العالم، ويجب أن تكون حاوية لطائفة من الأخبار الأصيلة التي تنقل إلينا صورة صحيحة عن التغير أو التطور العالمي.
وفي الجريدة - كما في الكتاب - يجب أن نقرأ بالقلم، فنبرز الخبر الخطير بعلامة واضحة، ونستشير الخريطة، ونقرأ الصفحة المالية، ونتعلم كيف تكون تقلباتها أحيانا دلالة على تغير السياسة، بل يجب أيضا أن نقرأ الخبر الذي لم يكتب، ونتعرف على الأسباب التي تمنع النشر لهذا الخبر أو ذاك.
وفي مدة الحرب تعود الجريدة ضرورية؛ لأن الحرب - كما قال ماركس - هي قاطرة التاريخ لسرعة الحوادث فيها، فنحن نقرأ في الجريدة تاريخا حيا لعصرنا، وهي لذلك تجذبنا بقوة الحوادث، بل إن أيام الحروب كثيرا ما كانت سببا لجذب العامة إلى قراءة الجريدة واعتياد شرائها مدى الحياة.
والجريدة والمجلة كلتاهما يجب أن تكون بعض أثاث البيت المتمدن، ويجب أن يتعلق الصبيان بالقراءة فيهما، وربة البيت الذكية التي تنشد الثقافة لأبنائها تنفق على المجلات والجرائد كما تنفق على حاجات المنزل الأخرى، ويجب أن تعنى باختيار النفيس منها؛ لأنها تعلم أن إيحاء الخبر أو الصورة أو المقال كبير الأثر جدا في إيحاء الفضيلة أو الرذيلة وتربية الشخصية أو إضعافها، ثم يجب أن نراعي هذه الاعتبارات التالية: (1)
অজানা পৃষ্ঠা