ها نحن أولاء قد أتينا على كل ما وجد في أرسطو تقريبا على إكسينوفان. ولكن تلك الفقرة المذكورة في «ما بعد الطبيعة» عظيمة الأهمية من حيث إنها ترينا رأي أرسطو في أن مذاهب ميليسوس ليست بعيدة عن مذاهب إكسينوفان، وذلك يدلنا على حكمة الجمع بينهما في كتاب واحد إذا كان أرسطو هو مؤلف هذا الكتاب، وإن لم يكن فكيف تسنى لمؤلف آخر أن يجمع بينهما دون أن يقرب بينهما قسرا. غير أنه كان يلزم - مراعاة للترتيب الزماني - أن يتكلم على ميليسوس بعد إكسينوفان. ولكن ربما كان هذا مجرد خطأ مادي في الوضع سببه إهمال نساخ. ولما أنه ليس بين الجزأين الخاصين بإكسينوفان وميليسوس ارتباط ضروري، فليس في التشويش مستنكر ولا مستعصى عن الفهم.
أما ميليسوس الذي نضعه في الصف الثاني، سواء في الأهمية والترتيب الزماني، فإنه رجل يسترعي الاهتمام وإن كان أقل رفعة من سابقه. قد ولد في ساموس كفيثاغورث، وتبوأ فيها مركزا عظيما، ودافع عن وطنه بمهارة وشجاعة عندما حاصره الآتينيون قبل حرب بيلوبونيز بخمس عشرة سنة. ولقد نجح ميليسوس في كسر الحصار، واتخذ لقومه منه مخرجا قادهم به حتى أتلف أعمال الحصار ووصل إلى أسطول الأعداء وخربه كله تقريبا. كل ذلك في غيبة بيريكليس الذي كان قد غادر الحصار لملاقاة السفن الفينيقية الآتية لنصرة مدينة ساموس، فأمكن المدينة أن تحصل على ما نقصها بالحصار من التموين، وذلك بفضل النصر الذي أحرزه ميليسوس. ولكن الدائرة قد دارت على أهل ساموس حين رجع بيريكليس من غيبته، فانهزم ميليسوس في حرب برية، واضطرت المدينة إلى التسليم على شروط أقسى ما تكون. لم يذكر طوسيديد الذي روى هذه الوقائع (ك1 ب116) ميليسوس، غير أن بلوطرخس ذكره في ترجمة بيريكليس (ب26 ف3 ص199 من طبعة فيرمين ديدو) على صورة لا تحتمل الشك؛ لأنه يقول بالصراحة: إن ميليسوس بن إيتاجين كان فيلسوفا. وزاد على ذلك بلوطرخس نقلا عن أرسطو من غير أن يبين موضع النقل: أن ميليسوس كان قد هزم قبل ذلك بيريكليس في واقعة بحرية أخرى، وذلك إنما يعطي من مقدرة ميليسوس الحربية فكرة أسمى.
ومهما يكن من الأمر فإن من المحقق أن ميليسوس كان به تحت ثياب الفيلسوف وطني وسياسي وقائد بحري ورجل حرب، وذلك من الندرة في تاريخ الفلسفة بحيث يجب علينا التنبيه إليه كما فعل بلوطرخس (باب32 ص1377 طبعة فيريمن ديدو
Adversus CoLoten ، ولما أن ساموس قد سامها الآتينيون صنوف القسوة فمن المظنون أن ميليسوس ذلك الوطني الغيور - والذي كان له حظ عظيم في مقاومة الفاتحين - لم يشأ أن يبقى تحت الحكم الآتيني، وأنه هاجر في هذا الظرف العسير، وكان ذلك في الأولمبية الرابعة والثمانين؛ أي السنة 441 قبل الميلاد. وهذا التاريخ مضبوط ومتفق تماما مع شهادة أبللودور التي نقلها إلينا ديوجين اللايرثي (ك9 ب4 ص233 طبعة فيرمين ديدو).
كذلك لا يرى لماذا لم يمكن أن يكون ميليسوس تلميذا لبرمينيد كما يقوله أيضا ديوجين اللايرثي؛ فإن التواريخ لا تقف دون ذلك. ولما أن ميليسوس هو من أتباع مدرسة إيليا فيمكن بسهولة أن يكون تلقى مذاهبه من خليفة إكسينوفان. ولقد قرن أرسطو مرات عديدة ذكر برمينيد بذكر ميليسوس في كتاب الطبيعة (ك1 ب2 ف1 و5 ص433 و436 من ترجمتي) ليفندهما جميعا في نظرية وحدة الموجود ولا تحركه. كذلك فعل أفلاطون في كتابه «تييتت» (ترجمة كوزان ص144). وإن هذا على التأكيد لا يكفي لإثبات أنه كان بين الفيلسوفين علاقة أستاذ وتلميذ، غير أن هذه التقاريب لا تنفي هذا الظن الكثير الاحتمال في شيء (ر. أيضا الطبيعة ك1 ب3 ف9 وب4 ف1). وفي ما بعد الطبيعة في الفقرة التي استشهدنا بها آنفا اسم ميليسوس مقترن باسم برمينيد. وكذلك في كتاب السماء (ك3 ب1 ف2 ص223 من ترجمتي). ومن ذلك أستنتج أن دعوى ديوجين اللايرثي مهما كانت فريدة لا ترفض بهذا الازدراء الذي لاقت من بعض مؤرخي الفلسفة؛ فإن ميليسوس لما هاجر إلى إيليا في إغريقا الكبرى يمكن جيدا أنه قد سمع دروس برمينيد الذي استمر يلقي دروس إكسينوفان.
وعلى جملة من القول لا يعرف شيء عن حياته، ولكن من العدل أن يفترض أن نهايتها كانت مطابقة لبدايتها.
كان كتاب ميليسوس موسوما «في الوجود»، بل ربما كان موسوما «في الطبيعة» عنوان شائع جد الشيوع عند أكثر فلاسفة تلك الأزمان القديمة، وإذ الطبيعة في مجموعها هي موضوع درسهم حتى يتهيأ لهم تحليل مفصل ما كان ليؤسس إلا على مشاهدات أكثر عددا. نحن نعرف مؤلف ميليسوس هذا بالمختصر الموجود في هذا الكتاب الذي نترجمه، وبالشواهد التي نقلها ميليسوس في شرحه على الطبيعة لأرسطو، إما لأنه كان بين يديه النسخة الأصلية لكتاب ميلسيوس وإما - وهو الأرجح - لأنه لم يكن لديه إلا ملخصات تيوفراسط الذي يستشهد به. لا أريد أن أختصر أنا أيضا تلك المختصرات المختلفة، ولكني أقنع بأن أحيل على قطع ميليسوس التي سوف نذكرها بعد أخذا عن أسبلدنج ومللاخ، وفيها يرى مذهب الفيلسوف السموسي، على ما وصل إلينا بالأقل، وزيادة على ذلك يرى لماذا كان كتابنا الصغير أمينا على المؤلف الذي يعرفه للناس في حين أنه ينقض مذهبه!
بعد إكسينوفان وميليسوس لا أقول شيئا عن زينون ما دام كتابنا لا يتكلم عنه، وإن ذكره الوارد في عناوين بعض المخطوطات يجب أن يعتبر كسهو، فيبقى غرغياس الذي يجب أن يكون كلامنا عليه موجزا جدا؛ لأنه معروف أكثر ولأنه لا يكاد يكون إلا سفسطائيا.
11
ولد غرغياس في ليونتيوم بصقلية نحو الواحدة والسبعين أولمبية، وبلغ من الكبر مبلغا عظيما، حتى لقد بلغ على ما يظهر الثامنة والتسعين أولمبية؛ أعني أنه لم يمت إلا في سن الثامنة أو التاسعة بعد المائة كما يقول كل كتاب الزمن القديم بالإجماع، ولا يعرف عن حياته العملية تفاصيل طويلة. أما عائلته فالظاهر أنها كانت - فيما يظهر - عائلة ممتازة، وكان أخوه «هيروديكوس» - الذي لا ينبغي أن يلتبس بهيروديكوس السلمبري - طبيبا حاذقا (ر. غرغياس لأفلاطون ص185 و209 ترجمة كوزان). وهذا يدل فيما يظهر على أنه كان في سعة من العيش وعلى جانب عظيم من الثقافة العقلية. وأما غرغياس فإنه اجتهد على الأخص في الخطابة، وكانت فنا مخترعا حديثا وقتئذ حصل منه على اسم كبير في صقلية وأفاد من تعليمه إياه فوائد أكبر. ولا شك في أن قدرته الخطابية هي التي أكسبته ثقة مواطنيه إذ استنجدوا آتينا ضد سيراقوزة والمدائن الأخرى الدورية؛ فبعثوا غرغياس يطلب مساعدة الجمهورية، ويظهر أن التاريخ المضبوط لسفارته هذه هو السنة الثانية للأولمبياد الثامنة والثمانين؛ أي سنة 427 قبل الميلاد. ويظهر أن سقراط الذي رآه بلا شك لم يكن ليستهين بفصاحته التي كثر اللغط بشأنها في آتينا وصارت مصدر ثروة لهذا المعلم الحسن البيان (ر. هبياس لأفلاطون ص100 ترجمة كوزان). ولقد ظن أن أرسطوفان في روايته المضحكة عن الطيور كان يريد أن يستهزئ بغرغياس؛ لأنه كان يرى أسلوبه منتفخا وغير طبيعي.
অজানা পৃষ্ঠা