كما تخليت من قبل
عن ابنك المسيح. (2) أحلامها لم تتغير
جلست لأكتب وشريط الذكريات يعود بي إلى طفولتي، منذ دخلت المدرسة لأول مرة، وطلب منا المدرس أن نكتب أسماءنا فوق الكراسة، كتبت اسمي نوال، وإلى جواره كتبت اسم أمي زينب، هكذا دربتني أمي على الكتابة قبل أن أدخل المدرسة، لكن المدرس انتفض غاضبا حين رأى اسم أمي ، أمسك القلم وشطب عليه بالحبر الأحمر بلون الدم، وقال لي: يا حمارة اسم الأم لا يكتب، اكتبي اسم أبيك وجدك والد أبيك، كتبت كلمة «السعداوي» ويدي ترتعش بالغضب، إنه اسم جدي الذي مات قبل أن أولد، رجل غريب عني لا أعرفه، وأمي التي أعرفها وأحبها يشطبون على اسمها.
منذ تلك اللحظة بدأت أحلم بعالم آخر لا يشطبون فيه على أسماء الأمهات، ولا أحد يسألني من هو أبوك؟ وما هو دينك؟ وما هو جنسك؟ وما هي جنسيتك؟ وما هي هويتك؟ وما هي عائلتك؟ وغيرها من الأسئلة لا نكف عن سماعها منذ أن نولد حتى نموت.
في قريتي وأنا طفلة كنت أرى الأطفال يرتعشون ويموتون كالكتاكيت قبل أن يبلغوا العام الأولى من العمر، من حولي أرى وجوه النساء ضامرة مشققة محروقة بالشمس، أجسامهن داخل الجلابيب السوداء المتربة، يخرجن قبل الفجر إلى الحقول حافيات، يشتغلن بالفئوس في الأرض ثم يعدن عند غروب الشمس، أشهدهن عائدات على الطريق الزراعية مع البهائم، ما أن يدخلن حتى يشعلن الفرن، أو الكانون، ويبدأن الطبخ والخبز والغسيل والكنس، ثم يحملن الزلع فوق رءوسهن ليجلبن الماء من النيل، وقت العشاء يجلس الرجال والأولاد والذكور يأكلون، بعد أن ينتهوا ويشبعوا تجلس النساء والبنات ليأكلن ما بقي من الرجال والأولاد.
وفي أول أيام العيد أرى النساء داخل جلاليبهن السود المتربة سائرات إلى المقابر حين يبكين على الموتى، تبكي الأم طفلها الذي صعدت روحه إلى السماء بسبب الجوع أو المرض، وتبكي الزوجة زوجها الذي مات بالبلهارسيا، أو أخاها أو أباها الذي ذهب إلى الحرب ولم يعد، أو ضربته سيارة مسرعة على الطريق، أو مات في السجن أو هاجر ولا تعرف له طريقا.
كان ذلك في القرن الماضي في الأربعينيات، اليوم نحن في القرن الواحد والعشرين وبداية الألفية الثالثة، رغم ذلك حين أزور قريتي تبدو وجوه النساء كأنما لم تتغير، وجلاليبهن السوداء المتربة هي التي رأيتها منذ ستين عاما، وبكاؤهن ونحيبهن في المقابر أول يوم العيد هو البكاء وهو النحيب، كأنما لم يتغير شيء في القرية، إلا أن مساحات الخضرة أصبحت أقل مما كانت، زحفت المباني من الطوب كالأورام السرطانية، وأكلت الزرع والحقول، لم تعد الشمس تدخل بيوت القرية كما كانت تدخل وأنا طفلة، أصبحت النوافذ مسدودة بجدران البيوت المجاورة، أصبح الهواء ثقيلا بالدخان والغبار، والأزقة الضيقة أصبحت مسدودة بالسيارات المستوردة من كل نوع، أما كل بيت من الطين سيارة وكوم من السباخ أو القمامة.
ابنة عمتي زينب تبدو امرأة عجوز مجعدة الوجه ضامرة الجسم متورمة المفاصل، تجلس في مدخل البيت أمامها جهاز تليفزيون فوق منضدة خشبية مشققة، تتابع بعينيها المضعضعتين فيلما أمريكيا تتلوى فيه أجساد نساء نصف عاريات يطلق الرصاص في كل اتجاه، وتضج القرية بأصوات عشرات الرجال يؤذنون للصلاة من فوق مآذن الجوامع ركبت عليها الميكروفونات، ترتفع أصواتهم إلى السماء، لا ينافسها في الارتفاع إلا الإعلانات عن سجائر مارلبورو وكوكاكولا وسفن أب وسبرايت على أعمدة الطرق الزراعية.
يتخلل عرض الفيلم مقاطع من الإعلانات عن غسول الشعر الأمريكي سان سيلك، تظهر امرأة عارية تحت الدش تغسل شعرها بالشامبو ذي الرغوة الغزيرة، تطل ساقاها البيضاوان من تحت الماء، يلي ذلك فقرة قصيرة دينية، يظهر شيخ وقور يتكلم بصوت رصين، يمتدح حجاب المرأة وطاعتها لزوجها، واحتشامها درءا للفتنة، ثم تعود الفقرة الإعلانية ونرى امرأة لها شفتان مغريتان تحركهما في دلال وتضغط عليهما بقلم روج أحمر مستورد.
طوال هذا الوقت كله تجلس ابنة عمتي زينب أمام الشاشة، تشهد الصور المتعاقبة أمام عينيها، ومن باب الزريبة المفتوحة تطل البقرة أيضا تتابع فوق الشاشة المضيئة، تمسح زينب حبات العرق فوق جبينها بطرف طرحتها السوداء، مفاصل أصابعها متورمة مشققة بمقبض الفأس حفرت به الأرض السنين، أكثر من نصف قرن.
অজানা পৃষ্ঠা