اعلم وفقك الله أن الخلق المصدقين بالله تعالى ورسله واليوم الآخر على اختلاف شرائعهم ومذاهبهم الفروعية فيما اختلفوا فيه واتفاق معتقداتهم الأصولية فيما اتفقوا فيه تتفاضل درجاتهم عند الله عز وجل، وتتفاوت مراتبهم في الثواب بين الجزيل والأجزل فأرفعهم درجة عنده تعالى أعرفهم به، وأشدهم خوفا وحياء منه وأقواهم إيمانا وإيقانا وأثبتهم استدلالا وإمعانا، وأمكنهم طمأنينة وإذعانا، وأنهضهم برهانا وسلطانا على من جحده تعالى أو ألحد في توحيده أو اغتاب في عدله وصدق وعده ووعيده، وأغرقهم معرفة بكيفية إبطال شبه الإلحاد والتعطيل، وأكثرهم بحثا ونظرا في معرفة معاني المتشابه الذي يجهله أهل الزيغ والضلال حججا على أهل التوحيد والتعديل وما يتبعهما من مسائل النبؤات والإمامة والتفضيل والشفاعة، وسائر أحوال المعاد بالإجمال أو التفصيل فمن هنا كانت الملائكة والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أفضل الخلق عند الله وأقربهم إليه وأرفعهم درجة إليه، ثم أوصياء الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم سائر المؤمنين، على حسب تفاوت مراتبهم في العلم بالله تعالى والخشية له والفرار من موجب عقابه، والمبادرة إلى ما يوجب زيادة معرفته تعالى ونيل ثوابه ما ذاك إلا لتفاوتهم في السبب المقتضي لتلك المفاضلة والأمر المفضي بصاحبه إلى أي مرتبة من المراتب العالية أو النازلة، ومن ثمة قال تعالى {هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون} [آل عمران:163]، وقال تعالى: {ولكل درجات مما عملوا} [الأحقاف:19]، وقال: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام:124]وقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة:253]، وقال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملآئكة وأولوا العلم } [آل عمران:18]، فلم يعتد سبحانه وتعالى بشهادة غير أولي العلم، والمراد بأولي العلم به لصحة تلك الشهادة، لأن العالم وإن تبحر في سائر فنون العلم مع تقصيره في هذا الفن الشريف فليست شهادته إلا كشهادة غيره من العوام بل قد يكون العامي أسلم منه لعدم إطلاعه على ما يقدح في الاعتقاد الصحيح من المذاهب المتعارضات، والتمسكات التي اعتمدها أهل الضلال، والآيات المتشابهات والأحاديث المضطربات والموضوعات وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر:28]، وهذه الآية كالتي قبلها في أن المراد العلم بالله وما يحق له من الصفات الإثباتية والنفيية التي تنتج معها الخشية كل الخشية من الله تعالى، من أنه تعالى قادر على كل شيء، وعالم بكل شيء مع تحرير الأدلة القطعية على ذلك، ومنه ينتج العلم بالله أنه قادر على إعادة المكلف إلى عرصة المحشر، وعالم بجميع أعماله، وأنه صادق فيما أخبر به على ألسنة رسله وأنبيائه وسائر حججه على خلقه من الثواب لمن أطاع والعقاب لمن عصى، وأنه عدل لا يكذب ولا يعذب أحدا إلا بذنبه، ولا يثيبه إلا بعمله، وأنه حكيم لا يخلق الفساد ولا يريده من العباد، وأنه لا شفاعة ولا ناصر ولا مفر لأعداء الله منه، فعند العلم بجميع ذلك تحصل الخشية من الله تعالى، وتتفاوت الخشية على قدر تفاوت العلم وقوته وضعفه بتلك المعارف وما يدل عليها، وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المعنى بل صرح فيما أخرجه الإمام الموفق بالله عليه السلام عن أنس قال صلى الله عليه وآله وسلم لما جاءه سائل قال: يا نبي الله علمني غرائب العلم قال: " أعلمك رأس العلم خير لك، تعرف الله حق معرفته، وتستعد للموت قبل نزوله، فقال زدني؛ فقال : حسبك إن عرفت الله حق معرفته لم تعصه "، وأخرج ولده الإمام المرشد بالله عليهما السلام والحافظ بن عقدة رحمه الله تعالى عن علي عليه السلام في قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، قال أعلم الناس بالله أشدهم خشية، وأخرجا أيضا عن زيد بن علي عليهما السلام في قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، قال: على قدر منازلهم في العلم بالله شدة خشيتهم، وأخرج الدارمي في مسنده عن عطاء قال: " قال موسى يا رب أي عبادك أغنى؟ قال: أرضاهم بما قسمت له؛ قال: يا رب أي عبادك أحكم ؟ قال: الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه؛ قال أي عبادك أخشى لك؟ قال: أعلمهم بي ".
পৃষ্ঠা ৭