الآخرة أعز من الكبريت الأحمر، فكيف يكون حالهم بين أهل الدنيا، وتخفى حالهم غالبا على الفرقتين كما قال:
تواريت عن دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
ولو تسئل الأيام ما اسمي لما درت ... وأين مكاني ما فرعن مكاني
ومن ظهر منهم للناس فهو بينهم ببدنه، وقلبه معلق بالنظر الأعلى كما قال أمير المؤمنين ﵁ في وصفهم:
جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطن
وكانت رابعة العدوية - رحمها الله تعالى - تنشد في هذا المعنى:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للحبيب مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وأكثرهم لا يقوى على مخالطة الخلق فهو يفر إلى الخلوة ليستأنس بحبيبه، ولهذا كان أكثرهم يطيل الوحدة.
وقيل لبعضهم: ألا تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟ .
وقال آخر: وهل يستوحش مع الله أحد؟ .
وعن بعضهم: من استوحش من وحدته فذلك لقلة أنسه بربه.
وكان يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد فعاتبه أخوه فقال له: إن كنت من الناس فلا بد لك من الناس، فقال: يحيى: إن كنت من الناس فلا بد لك من الله.
وقيل له: إذا هجرت الخلق مع من تعيش؟ قال: مع من هجرتُهم له.
وأنشد إبراهيم بن أدهم:
هجرت الخلق طرًّا في هواكا ... وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربا ... لما حن الفؤاد إلى سوكا
1 / 330