مقدمة المُصنّف
الحمد لله البعيد في قُربه، القريب في بعده، المتعالي في رفيع مجده، عن الشيء وضده، الذي أوجد بقدرته الوجود بعد أن كان عَدمًا، وأودع كل موجود حكمًا، وجعل العقل بينهما حَكَمًا، ليميز بين الشيء وضدّه، وألهمه بما علّمه فعلم مُرّ مذاق مصابه من حلاوة شهده. فمن فكر بصحيح قصده، ونظر بتوفيق رُشده، علم أن كل مخلوق موثوق في قبضتي شقائه وسعده، مرزوقٌ من خزائن نعمه ورفده، قال تعالى: (مَّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ) فلو صفت عين بصيرتك، وانجلت مرآة سريرتك، وأصغيت بسمع يقظتك، لأسمعك كل شيء موجود ما يجده من
1 / 41
منتقدات وجده، وما يكابده من وجدان بعده، ألم تسمع للنسيم كيف تنسّمَ أسفًا لبكآء السحاب على جزره ومّده، وتأوّه لهفًا على تبسم البرق لما سمع قهقهة رعده؟ ألم تسمع للربيع ما هو يبشرك بورود ورده، وأخبرك بنشور ورده وشرود برده، وسعي إليك بانقلاب الشتآء لجرده ومُرده، ووشى اليك القبول بوشي الروض وبرده، وشكى إليك البان ما بان من تمايل قده، وأنهى إليك الأقحوان ما حاز من ألوان الزهر وجُنده، وحقوق أعلامه المعلمة بسعده، ووثب النرجس قائمًا للقيام بورده، وأقبل الشقيق على تشقيق ثوبه وقده، فكأنه ثلكى لا طمًا على حمرة خدّه، ووصف إليك الجلنار جُل نار هجوه وصده، وناح العندليب
1 / 42
على عوده الرطيب ورنده، وباح العاشق الكئيب بما يكابده من هوى زينبه وهنده، وهام في فلوات خلواته طربًا بما سمعه عن طيب نجده، وفرَّ هاربًا إلى من يعلم خفايا ما أبداه وما لم يُبده، فالعارف من شكر سوابغ النغم، واحتقر معادن الحكم، ولم يقنه من اللبن إلا بزبده، وعلم أن الله تعالى ما أحدث حدثًا، وأهمله عبثًا، بل كلّ واقف عند حّده، باقٍ على حفظ عهده، مقرٌّ بتصديق وعيده ووعده (وَإِن مِّن شَيْءِ إِلاَّ يُسَبَّحُ بِحَمْدِهِ) أحمده على كل حال وأسأله توفيق حمده، وأُصلي على سدينا محمد رسوله وعبده، الذي أنزل عليه في مُحكم كتابه العزيز مخبرًا برفيع مجده (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ..) صلى الله عليه وآله وصحبه وعشيرته وجنده.
أما بعد: فإني نظرت بعين التحقيق، ورأيتُ بنور التصديق والتوفيق، أن كل مخلوق مقر بوجود الخالق، وكل صامت في الحقيقة ناطق، فاستعربت الإشارات، واستقرأت العبارات، فرأيت كلا ناطقًا بلسان حاله ولسان قاله، لكنّي رأيت لسان الحال أفصح من لسان القال، وأصدق من كل مقال، لأن لسان الخبر يحتمل التكذيب والتصديق،
1 / 43
ولسان الحال لا ينطق إلا بالتحقيق. بالناطق بلسان الحال مخاطب لذوي الأحوال، والناطق بلسان القال مقابل لأهل الصحة والاعتلال.
وقد وضعت كتاب هذا مترجمًا عمّا استفدته من الحيوان برمزه، والجماد بغمزه، وما خاطبتني به الأزهار عن حالها، والأطيار عن مقرّها وارتحالها، وسميته: كشف الأسرار في حكم الطيور والأزهار، وجعلته موعظة لأهل الاعتبار، وتذكرة لذوي الاستبصار، فاعتبروا يا أولي الأبصار، قال تعالى: (إِنَّ فِيِ خَلْقِ السَّموَاتِ وَالأَرضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار لآَياتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ) .
فمن طالع مثالي، وفهم ضرب أمثالي، فذاك من أمثالي، ومن أعجم علي إشكالي فليس من أشكالي، فأقول والله لعبده كالي: أخرجني الفكر يومًا لأنظر ما أوجدته أيدي القدم في الحدث، وأحدثته القدرة البالغة للجدّ لا للعبث، فانتهيت إلى روضةٍ قد رق أديمها، ونمى خصيب رطيبها، وراق نسيمها، ونمَّ طيبها، وغنّى عندليبها، وتحركت عيدانها، وتمايلت أغصانها، وتنمقت أزهارها، وصّوت هزّازها، وتسلسلت جداولها، وتبلبلت بلابلها.
فقلت: يا لها من روضة ما أهناها، وخضرة ما أبهاها، وحضرة
1 / 44
ما أصفاها، فليتنى استصحبت صديقًا حميمًا يكون لطيب حضرتي نديمًا.
فناداني لسان الحال في الحال: أتريد نديمًا أحسن مني، أو مجيبًا أفصح مني؟ وليس شيء في حضرتك إلا وهو ناطق بلسان حاله، منادٍ على نفسه بدنوا ارتحاله، فاستمع له إن كنت من رجاله. وفي ذلك أقول:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ نَسِيمَ الصَّبَا ... له نَفَسٌ نَشَره صَاعِدُ
فَطَوْرًا يَفُوحُ وطورًا يَنُوحُ ... كما يَفْعَلُ الفَاقدُ الوَاجدُ
وسكبُ الغمامِ ونوحُ الحمامِ ... إذا ما شَكَى الغُصْن المايدُ
وضوءُ الأقاحِ ونُورُ الصَّباحِ ... وقد هزَّهُ البَارقُ الرَّاعِدُ
ووافَى الرَّبيعُ بمعنىً بديع ... يُترجمُ عن وِرْدِهِ الوَاردُ
وكُلٌّ لأَجْلِكَ مُسْتَنْبَطٌ ... لما فيه نَفْعُكَ يَا جَاحِدُ
وكُلٌّ لآلآئِهِ ذَاكِرٌ ... مُقرٌِّ لهُ شَاكِرٌ حامِدُ
وفى كُلّ شَيْءِ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلّ عَلَى أَنهُ وَاحِدُ
1 / 45
إشارة النسيم
فأول ما سمعت همهمة النسيم، يترنّم بصوته الرخيم، يقول بلسان حاله، عن صريح لفظه ومقاله: أنا رسول كل محب إلى حبيبه وحامل شكوى كل عليل إلى طبيبه، إن استودعت سِرًّا أديته كما استودعته، وإن حُمّلتُ نشرًا رويته كما سمعته، وإن صحبتُ مصحوبًا اتّحدتُ فيه بلطافة إيناسى، ومازجته بصفاء أنفاسى، فإن طاب طبت، وإن خبث خبثت، كما قال الشاعر:
الرَّاحُ كالرِّيّحِ إن مرَّت عَلَى عَطرٍ ... طَابت، وتَخْبُثُ إنْ مَرَّت على الجيفِ
ثم إني إن اعتللت صحّ بي العليل، وحيث حللت طاب بي المقيل، وإن تنفّست تنفّس المشتاق، وإن نمّت توسوست العشّاق،
1 / 47
فأنا لّين الإعطاف، هيّن الانعطاف، سريع الائتلاف، ولولا وجودي في الوجود لما كان مخلوق موجود، يعرف لطفى ذوو الألطاف فلا تظن اختلاف هوائي سبب إغوائي، بل أختلف في الفصول الأربع، لما هو أصلح لك وأنفع، فأهبُّ في الربيع شمالًا لألقح الأشجار، وأُعدّل فصلى الليل والنهار، وأهب في الصيف صبًّا لأنمّى الثمار، وأُصفّى الأنهار، وأهب في الخريف جنوبًا فتأخذ كل شجرة حد طيبها، وتستوفى حق تركيبها، وأهبّ في الشتاء دبورًا فآخذ عن كل شجرة حملها وأوراقها ويبقى أصلها. فأنا الذي تنمو بي الثمار، وتسمو بي الأزهار، وتتسلسل الأنهار، وتلقّح بي الأشجار، وتتروح بي الأسرار، وأبشرك في الأسحار بقرب المزار، وفي ذلك أقول:
يَاطِيب ما نقلَ النَّسيمُ لمَسْمعى ... عن طِيبِ ذيَّاك المحلّ الأرفعِ
وَافى لينشرَ ما انْطَوَى من نَشْرِهِ ... فَسَكِرتُ مِنْ طِيبِ الشَّذَا المتضوّعِ
ولربما أعتلّ النَّسيم إذا بَدَتْ ... أنفاس شوقي المستكنُ بأضلعِي
1 / 48
هبَّ الصَّبا سَحَرًا لتُبرَد عُلّتي ... فَأثارَ نار تَحرّقي وتَوجّعى
مَا ذَاكَ إِلاَّ أنَّهَا لِمَا سِرْتُ ... مرّتْ عَلى تِلْكَ الرُّبَا الأَرْبَعِ
فَتَحَمَّلتْ نَشْرَ الصَّبَا في طّيّهَا ... فَسَكرتُ وسَمِعْتُ مَا لم يُسْمَعِ
وَآفتْ تُبَشّرنى بِلَيْلى أَنَّهَا ... في حُسْنهَا سَفَرتْ فَلَم تَتَبَرْقَعِ
وَجَلتْ عَلَى عُشّاقِهَا في حَانِهَا ... وَجْهًا تمنّع في حِمىً متمنّعِ
1 / 49
إشارة الورد
ثم سمعت مجاوبة الأزاهير بألوانها، والشحاريرُ بأقنانها، فرأيت الورد يخبر عن طيب وُروده، ويعترف بَعرفه عند شهوده، ويقول: أنا الضيف، الوارد بين الشتاء، والصيف، أزور كما يزور الطيف، فاغتنموا وقتى فإن الوقت سيف. أعطيت نفس العاشق وكُسيت لون المعشوق، فأروح الناشق وأهيج المشوق، فأنا الزائر وأنا المزور، فمن طمع في بقائي فإن ذلك زور. ثم من علامة الدهر المكدور، والعيش الممرور؛ أنني حيث ما نبتّ رأيت الأشواكَ تزاحمنى، والأدغال تجاورني، فأنا بين الأدغال مطروح، وبنبال شوكى مجروح، وهذا دمى يُرى عندما يلوح،
1 / 50
فهذا حالى وأنا ألطف الأوراد، وأشرف الورّاد، فمن ذا الذي سلم الأنكاد، ومن صبر على نكد الدنيا فقد بلغ المراد.
وبينما أنا أرفل في حلل النضارة، إذ قطفتني يد النظارة، فأسلمتني من بين الأزاهير إلى ضيّق القوارير، فيذاب جسدي، ويُحرق كبدي، ويُمزق جلدي، ويقطر دمعي الندى، ولا يُقام بأودي، ولا يؤخذ بقودي، فجسدي في حُرق، وجفوني في غرق، وكبدي في قلق، وقد جعلت ما رشح من عرقي شاهدًا لما لقيت من حُرقي، فيتأسى باحتراقي أهل الاحتراق، ويتروح بنفسي ذوو الأشواق، فأنا فانٍ عنهم بأيّاي، باقٍ فيهم بمعناي، أهل المعرفة يتوقعون لقآئي، وأهل المحبة بتمنون بقآئي، وفي ذلك أقول:
فإنْ غِبْتَ جِسْمًا كنتَ بِالرُّوحِ حاضرًا ... فسِيّان قُرْبى إنْ تَأَمّلتَ والبعْدُ
فللَّهِ من أضْحَى من النَّاسِ قائلًا: ... إِنَّكَ مَاءُ الوَرْدِ إذْ ذَهَبَ الوَرْد
1 / 51
ُ
إشارة المرسين
فلما سمع المرسين كلام الورد، قال: لقد لعب النسيم بالبرد، وباح النسيم بسره، ونشر السحاب عقود ظلّه، وتضّوع البهار بعرفه، وتبرج الربيع بقلائد نَحره، وخلع السرور عذاره، وبسط على الروض الأنيق أزهاره، وغرّد الهزار، ورد لعاشقة المزار، فقم بنا نتفرج، ونتيه بحسنه ونتبهرج، فأيّام السرور تُختلس، وأعمارها بأسرارها تُقتبس.
فلما سمع الورد كلام المرسين قال له: يا أمير الرياحين، من سلوك الأُمراء تأمّل الصواب في الآراء، تأمر باللو عبدك، وتحض على العيب جندك، وأسير الرعية، صاحب الفكرة والروية، فلا يعجبك حسنك إذا تماود غصنك، ولا لحسن أوراقك، وكرم أعراقك، فأيام الشباب كزيارة الأحباب، سريعة الزوال، دارسة الأطلال، كالطيف الطارق، والخيال المفارق، يطرق ويُلم، وينقطع وصله فلا يتم، وكذلك النبات، أخضر الجلباب، مورق العود، كالقباء المزرود، إذ حصد من أصله، وحكمت الأيام بشتات شمله. والنبات مختلف الأجناس، كاختلاف الحيوان من
1 / 52
الناس: فمنها ما يصلح للنار، كالحطب اليابس من الأشجار، ومنها ما يُشمّ ويذبل، ويُجوّل خطابه وينصل، وتطرقه حوادث الأيام، ويعود مرميًا على الأكوام، ومنها ما تؤكل ثماره، وتحسن في النار آثاره، فإياك والاغترار بزخارف هذه الدار، إنما أنت فريسة الأسد الهمام، وعليك إن نصحتك والسلام، وفي ذلك أقول:
يا رَاقِدًا في اللَّيلِ كَمْ ذَا تَنامُ ... أمّا تَخَافُ العُتْبَ بينَ الأنامِ
فَقُمْ لِمَوْلاَكَ وَكُنْ قَائِلًا ... في حِندِسِ اللَّيلِ وجُنحِ الظَّلامِ
يَا ربُّ بالهَادِي شِفِيعِ الوَرَى ... المُصْطَفَى ذُخْرِي ﵇
اهّدِي إِلهي مِنْكَ لي تَوْبَةً ... تَمْحُو ذُنُوبي والخَطَأ والآثامِ
فَقَدْ أتَيْتُ الآنَ مُسْتَغْفِرًا ... مُعْتَرِفًا بالذَّنْبِ لي والسَّلام
1 / 53
ِ
إشار البان
فلما نظرت الأشجار إلى طرب البان بينها، وتمايُله دونها، لامُوه على كثرة تمايله، وعَنَّفوه على عجبه بشمائله، فتمايل هنالك البان، وقال: لقد ظهر عُذرى عند الناس وبان، فمن ذا يلومني على تمايل أغصاني، واهتزاز خرصاني، وأنا الذي بسطت لي الرياض مطارفها، وأظهرت لي الأزهار زخارفها، وأهدت اليَّ نسماتُ الأسحار لطآئفها. فإذا رأيت ساعة نشور أموات النبات قد اقتربت، ورأيت الأرض وقد اهتزت وربت، ونفخ في صور رعدي ونسخ حكم وعيدي بإنجاز وعدي، وحان ورود وردى، فأنظر إلى الورد وقد ورد، وإلى البرد وقد شرد، وإلى الزهر وقد اتقد، وإلى الحب وقد انعقد، وإلى الغصن اليابس وقد اكتسى بعد ما انجرد، وإلى اختلاف المطاعم والمشارب وقد اتحد، فاعلم أن خالقها أحدٌ، ومنوعها صمدٌ، وموجودها بالقدرة قد انفرد، فلا يفتقر إلى أحدٍ، ولا يستغنى عنه أحدٌ، ولا يشاركه في ملكه أحدٌ، فهو الأحد الصمدُ
1 / 54
الذي لم يلد ولم يُولد ولم يكن له كفوًا أحد.
فهناك تمايلت قدودي طربًا بطيب شهودي، وترنمت بلابل سعودي على تحريك عودي، ثم تدركني عنايةُ معبودي، فأفكرُ في عدمي ووجودي، وفوات مقصودي، فأنعطف إلى الورد فأخبره بورودي، وأخلع عليه من برودي، وأستخبره عن مصدري وورودي؛ فقال لي: وجودك كوجودي، وموجودك كموجودي، وركوعك كسجودي، فأنت بخضرة قدودك، وأنا بحُمرة خدودي، فلهمَّ نجعلُ في النار وقودك ووقودي، قبل نارُ خلودك وخلودي.
فقلت: إذا صح الائتلاف، ورضيت لنفسك بالتلاف، فليس للخلان من خلال، فنقطف على حكم الوفاق، ونختطف من بين الرفاق، وتُصعّدُ أنفاسنا بالاحتراق، وتقطر دموعنا بالإشفاق، فإذا فنينا عن صور أشباحنا، وبقينا بمعاني أرواحنا، فسيّان غدوّنا ورواحنا. وفي ذلك أقول:
وَرَدَ الوَرْدُ بَشِيرًا بالذي ... فيه من لُطْف المَعَانِي قَدْ حَوَى
فَانْثَنَى البانُ لهُ منْعَطِفًا ... لاثِمًا نَشرَ الذي فيه انطَوَى
مَالَ يَشْكوُ أَهْيف القدْ له ... فَرْطَ مَا يَلْقَاهُ من حَرٍّ الجَوَى
فَرَثاَهُ الَورْدُ إذْ قَالَ لَهُ ... نَحْنُ خِلَّانٌ تَسَاهَمْنَا الهَوَى
فأَنَا أنّتَ كما أنْتَ أَنَا ... نَحنُ في المَغْنَى جَمِيعًا بالسَّوَى
1 / 55
كم رُمِينَا في لَظَى نارٍ فلا ... صَاحِبِي ضَلَّ ولاَ قَلْبِي غَوَى
ولَكُمْ قَدْ فرّقَتْ أيدي النَّوَى ... بَيْنَنَا والغُصْنُ مِنَّا ما ذَوَى
ألم تَرَ أَحْشَاؤنا قد حُشِيَتْ ... بِلَهِيب النَّارِ وَالقَلْبُ اكتَوَى
وِبهَا أنْفَاسُنا قَدْ صُعِّدتْ ... مِثْلَ مَا قَدْ قُطّرت منّا القُوَى
كلُّنا نَشْكُو بِشجْوٍ وَاحِدِ ... ولكُلٍّ في هَوَاهُ ما نَوَى
قَسَمًا حَقًّا يَمِينًا صَادِقًا ... بالذي قُدْمًا على العرشِ اسْتَوَى
إنَّ في شَرْحِ غَرامِي عِبرةً ... لذَوِي القَلْبِ إذا القَلْبُ ارعَوَى
كُنْتُ بالأمسِ كِبِدْرٍ طَالعٍ ... وَأَنَا اليومَ كَنَجْمٍ قَدْ هَوَى
1 / 56
إشارة النرجس
فأجابه النرجس من حاضره، وهو ناظر لمناظره، وقال: أنا رقيبُ القوم وشاهدهم، وسميرهم، ومنادمهم، وسيّد القومِ خادمُهُم، أعلّم من له همة كيف شروط الخدمة، أشدُّ للخدمة وسطى، وأوثقُ بالعزيمة شرطي، ولا أزال واقفًا على قدم، وتلك وظيفة من خدم. لا أجلس بين جُلاّسي، ولا ارفع للنديم رأسي، ولا أَمنعُ المتناول طيب أنفاسي، ولا أنا لعهد من وصلني ناسي، ولا قلبي على من قطعني قاسي. ثم لا يفارق فمي شرب كاس، وهو لي بصفوه كاسي. بُني على قضيب الزبرجد أساسي، وجُعل من العسجد واللجين لباسي، ألمحُ تقصيري فأطرق إطراق الخجل، وأُفكر فيما إليه مصيري فأحدق لهجوم الأجل، والعجيب أنني واقفٌ على التفرقة في مقام الجمع، يُدرك معنى شذاى حاسة الشمَّ لا حاسة السمع، وهذا معنى لا خطر بقلبٍ ولا مر بسمع، فإطراقي اعترافًا بتقصيري،
1 / 57
وإطلاقي لأحداقي نظرًا فيما غليه مصيري، وفي ذلك أقول:
إنْ يَكُنْ مِنِّي دني أَجَلِي ... آهُ واُذلّى وَيَا خَجَلِي
قُمْتُ من ذُلّي على قَدَمِي ... مُطْرِقًا للرأْسِ من ذَللِي
لَوْ بَذَلْتُ الرُّوحَ مُجْتَهِدًا ... وَنَفَيْتُ النَّوم عَنْ مُقَلِيِ
كُنْتُ بالتَّقصِيِر مُعْتَرِفًا ... خائِفًا من خَيْبَة الأمَلِي
إِنْ يَكُنْ للعَبْدِ سَابِقَةٌ ... سَبَقَتْ في الأَعْصُرِ الأوَلِ
لم يكنْ في القَادِمِينَ غدًا ... نَافِعِي عِلْمِي ولاَ عَمَلِي
مُقْلتي ما شَأْنها أبَدًا ... قطّ لاَ يَنْفَعُكَ منْ وَجَلِ
عَجِلًا في حَتْفِهِ وَكَذا ... خُلِقَ الإنْسانُ من عَجَلِ
وقلت أيضًا:
تَأَمَّلْ في رِيَاضِ الرِّوضِ وانظر ... إلَى آثارِ مَا صَنَعَ المَلِيكُ
عُيُونٍ مِنْ لجينٍ شاخصاتٍ ... بأحداقٍ كما الذَّهَب السَّبيك
عَلَى قَضِيبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِداتٍ ... بأَنَّ اللهَ ليسَ لَهُ شَرِيك
وأنَّ مُحَمَّدًا خَيْرُ البَرَايا ... إلى الثَّقَلَيْنِ أَرْسَلَهُ المَلِيكُ
1 / 58
إشارة اللينوفر
فناداه الينوفر، وحظه من السقم أوفى وأوفر، وقال: أما تعتبر أيها الحزينُ باصفراري، وأين من القضاء والقدر فراري، أنا الذي قد رضيت بعارى، ولست من العشق بِعَارى، الرياضُ قراري، والغياضُ داري، فإن كنتَ عاشقًا داري، فأهل الدارِ داري. هآ أنا أعشق صفآء المآء، فلا أفارقهُ في الصباحِ والمسآءِ، ومن العجب أنى به ولهان، وعليه لهفان، وإليه ظمآن، وأنا معه حيثما كان، فهل سمعتم بمثل هذا الشان، واقفٌ في الماء عطشان، أفتح عيني بالنهار، فيغار عليّ من نظر الأغيار، فإذا جنّ ليلي أنزلني عن رتبتي وحطني، وأخذني إليه وغطني، فأغوص في فكري، وأعود إلى خلوة ذكري، فتسغرق عيني في مشاهدة قرة عيني، فلا يعرف الجهول أينى، ولا يفرق العذول بين من أحبه وبيني، فحيث
1 / 59
ما مال بي هَوَائي، لا أنظره إلا حذائي. إن ظمئتُ رواني، وإن مِتُّ واراني، فحياة وجودي بحياته، وبقاء شهودي بثباته، وقيام ذاتي بذاته، وصفآء صفاتي بصفاته، فما بيتا بيّن، ولولاه ما كنتُ أثرًا بعد عين، وفي ذلك أقول:
كَسَا الحبُّ جِسْمِي ثَوْبَ الضَّنَا ... فَروحي من شَوْقِها في عَنَا
كأنَّ الهَوَئ إذ رَمَى سَهْمَهٌ ... لِقَلْبى دُونَ الوَرَى قد عَنَا
تَدَانَى فَأَدْنَى إِلىَّ مُهْجَتِى ... هوى كلما قًدْ دَنَا قَدَّنَا
يَقُولُ لى الحبُّ: اَلا تَألَفَنْ ... سِوَانَا إذا كنتَ من إِلْفِنَا
حَمَيْنا الوصَالَ ببيضِ النِّصالِ ... فإنْ تَلْقَ سُمْر القَنَا تَلْقَنَا
ولاَ تَجْزَعَنَّ بِحَدّ النِّبنَالِ ... وَمُرِّ النِّكال ففيه الهَنَا
ومُت مِثْلَ ما ماتَ أَهْلُ الهَوَى ... وَذابُوا اشْتِيَاقًا فَنَالُوا المُنَى
وما ضرُّهُمْ حِينَ نَادَيْتُهُمْ ... عَلَى طَوْر قَلْبِي أَتّى أَنَا
1 / 60
إشارة البنفسج
فتنفس البنفسج تنفس الصعدا، وقال: طوبى لمن عاش عيش السعدا، ومات موتَ الشهدا، إلى متى أموت بالذبول كمدا، وأكتسى بالنحول أثوابا جددا، أفتنى الأيام فما أطالت لى أمدا، وغيرتنى الأحكام فما أبقت لي جلدا، فما أقصر ما قضيت عيشا رغدا، وما أطول ما بقيت يابسا منجردا، وجميلة فضولى أننى أؤخذ أيام حصولي، فأقطع عن أصولى، وأمنع عن وصولى، ثم يتقوى على ضعفي، ويعسف بي مع ترفى ولطفى، فيتنعم بي من حضرني، ويجتلبني من
1 / 61