فخ لا ريب وعليه أن يتملص، لا تزال قدماه رغم كل شيء قادرتين على الحركة. حركة القدمين تصبح أحيانا معجزة، يرفع قدما ويخفض القدم الأخرى وهكذا يتحرك، لا يعرف إلى أين يهرب، ليس مهما أن يعرف، إنه قادر على التحرك، هذه القدرة في حد ذاتها شيء خارق، إنه قزم لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض، والبناء الضخم شامخ في السماء لكنه يستطيع أن يتحرك، أما البناء فلا يستطيع.
مقارنة تنطوي على خبث. الخبث أيضا قدرة خارقة، إنه ليس كحركة القدمين، ولكنه حركة داخل الرأس، ربما حركة جسدية أيضا ولكنه حركة على أي حال، إنه قدرة بغير شك، وهو يفتش عن قدراته، يبحث داخل جسمه الصغير عن كل أسلحته الخفية، أجل الخفية، فكل شيء يجب أن يعمل في الخفاء في هذه الأوقات، وبالذات حين يواجه المرء بمثل هذا الشيء الضخم. إنه بناء، وليس إلا بناء حجريا عاجزا عن الحركة ولكنه ضخم ضخامة غريبة، ضخامة تملأ المساحة بين الأرض والسماء، ضخامة تبدو من كبرها ممتدة بين السماء والأرض فكأنما هي شيء متحرك مع أنها جماد ثابت، كالكرة الأرضية ثابتة ومتحركة في الوقت نفسه.
وارتعدت قدماه، إنه حذر وشكاك لكنه ليس جبانا، الحذر شيء والجبن شيء آخر، لا يذكر أنه خاف مرة من أحد، كان إحساسه بنفسه يفوق إحساسه بالآخرين، مجرد إحساس أو مجرد وهم، ولكن ما هو الإنسان؟ الإنسان هو ما يتوهمه في نفسه، وكان يتوهم أنه أقدر من الآخرين فأصبح أقدر منهم وأصبح جسمه أقدر على التهام الأكل، وفي كل مرة حين يجلس إلى المائدة ويحس ببطنه يعلو طربا فوق فخذيه، يقول لنفسه: سأقلل من الطعام. ثم يأكل أكثر من أي مرة سابقة.
لو أكل أقل ربما كان أكثر قدرة على الحركة، ربما كان أخف وزنا، ربما كانت مطالبه أقل، لكن مطالبه كانت تزداد يوما بعد يوم، ليست مطالبه وحده وإنما مطالب زوجته ومطالب أولاده ومعارفه وأصدقائه، لا أحد في هذه الأوقات بغير مطالب، وعليه أن يسد أفواها كثيرة، عليه أن يدفع مقابل الوهم بأنه أقدر من الآخرين، عليه أن يدفع مقابل أي شيء وإن كان مجرد فم يغلق.
وتحسس فمه، شفتاه موجودتان وقادرتان على الانفتاح والانغلاق. أجل، وهذا صوت يخرج يشبه صوته، إنه صوته بالفعل، النبرة المعهودة والكلمات نفسها، إن مجرد النطق معجزة في بعض الأوقات، النطق قدرة خارقة في حد ذاتها، إنه قزم لا يكاد رأسه يرتفع عن الأرض والبناء ضخم شامخ، لكنه يستطيع أن ينطق أما البناء فلا.
على أن هذا أيضا سلاح قديم أبلاه الزمن، فهذا صوت أعلى من صوته، ونبرته أكبر وأضخم، تكاد تصم أذنيه الصغيرتين، قد لا يكون صوتا بشريا تماما، والكلمات قد لا تكون منطوقة بالطريقة نفسها التي ينطق هو بها، ولكن هل من الضروري أن يكون كل شيء بشريا تماما؟ هل من الضروري أن يكون كل شيء مفعولا بالطريقة التي يفعلها هو؟ لماذا يحكم دائما على الأشياء بجسده؟
ارتعدت قدماه أكثر، هذا البناء الحجري قادر على إصدار أصوات مسموعة في كل أنحاء السماء والأرض، ليست مسموعة فحسب ولكنها رنانة ضخمة تبتلع في جوفها صوته فلا يسمعه أحد، وهذا البناء الحجري قادر أيضا على التحرك، ليست حركة صغيرة كحركة قدم وراء القدم الأخرى، ولكنها حركة ضخمة جبارة تهز الأرض كزلزال، وتبتلع في جوفها حركته فلا يلحظه أحد، لا أحد يسمعه ولا أحد يلحظه، فماذا يدل على أنه موجود؟ ليس هناك أي دليل.
تصبب العرق من كل جسمه، غزيرا لزجا وله رائحة، لأول مرة في حياته يشم رائحة عرقه، الرائحة نفسها التي كان يتأفف منها كلما اشتد اقترابه من الآخرين، لو كان ميتا لفقد قدرته على الشم، إنه موجود إذن، وتشبثت أصابعه بأنفه؛ بهذا الدليل الوحيد على أنه لم يمت. لم يكن يهتم كثيرا بأنفه، فالأنف لم يكن في نظره عضوا مهما، بعض الناس قطعت أنوفهم وعاشوا، بعض الناس دفنوا أنوفهم في التراب وبقيت أجسامهم تعيش وترفل في النعيم.
وارتجفت أصابعه فوق أنفه، أنفه أيضا لم يكن مائلا إلى أعلى في ذلك الوضع الطبيعي المألوف، كان مائلا إلى أسفل، وأرنبة أنفه الرفيعة المدببة مرتكزة على الأرض، على حين كانت قدماه معلقتين في الهواء! كيف استطاع أن يقف على أرنبة أنفه؟ وكيف استطاعت أرنبته الرفيعة المدببة أن تحمل جسده؟
قد تكون صلاة، وربما هو نسي حركات الصلاة، أربعون سنة مضت منذ كان يصلي، كان طفلا صغيرا وكان هناك شيء اسمه الإيمان، ولكن ماذا يكون الآن هذا البناء الحجري الشامخ في السماء وظله الكثيف الأسود مرسوم فوق الأرض، والبيوت والعمارات والشوارع والعربات ومباني الحكومة وقضبان الترام؟
অজানা পৃষ্ঠা