কাম উমর ঘাদাব
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
জনগুলি
وخلال تلك الفترة الواقعة بين 1919 و1952م، تميزت الحياة السياسية بطابع الصراع العنيف، الذي تحددت معالمه بوضوح تام، بين تيارين: تيار رجعي يمثله القصر والإنجليز وأعوانهما، وتيار شعبي مستنير يمثله الوفد، ولم يكن الوفد حزبا مثاليا، بل كانت في دواخله تيارات متعارضة، كما كان يضم شرائح متباينة من المجتمع إلى الحد الذي يجعله أقرب ما يكون إلى صيغة «تحالف قوى الشعب»، تلك الصيغة التي بذلت فيما بعد محاولات لتطبيقها في إطار غير ديمقراطي، فلم تلق نجاحا.
ومع ذلك كان في الوفد ميزتان أساسيتان: الأولى أنه كان على وعي تام بأن مصدر قوته هو التأييد الشعبي الساحق، ومن ثم فقد كان في أوقات الأزمات يقف بصلابة في الدفاع عن الدستور وعن حقوق الشعب التي هي رصيده الأكبر، والثانية هي مرونته وقدرته على تطوير نفسه وفقا للأحداث؛ مما أتاح له أن يصمد صمودا رائعا، طوال الفترة الواقعة بين ثورتي 1919 و1952م، على الرغم من كل حملات التشويه والتشنيع التي كانت تشن ضده بانتظام، وبفضل هاتين الميزتين استطاع الوفد أن يكتسح أحزاب الأقلية، التي خلقها القصر والإنجليز لمحاربته، في كل انتخابات تجرى بقدر معقول من الحرية، وكان آخر انتصاراته، وأكثرها مدعاة للدهشة في نظر خصومه، هو فوزه الساحق في الانتخابات التي أجريت في أواخر 1949م، بعد فترة بدا فيها لخصومه في الداخل والخارج، أنهم أفلحوا في تشويه صورته عن طريق اختلاق تفسير كاذب لأحداث 4 فبراير 1942م، وعن طريق انشقاق مكرم عبيد ونشره «كتابا أسود» ضد الوفد، وعن طريق إنشاء دار «أخبار اليوم» الصحفية خصيصا لخدمة أهداف الملك والإنجليز والتخصص في تشويه صورة الوفد.
إننا لا نقدم هنا استطرادا خارجا عن الموضوع، ولا نود أن نقطع حبل الأحداث، التي أثارها كتاب هيكل أو التي ظهر كرد فعل عليه؛ إذ إن هذه الملاحظات تدخل في صميم الموضوع، وهي في رأينا تكمن في قلب المأساة الفكرية والسياسية التي تعاني منها مصر والأمة العربية في الوقت الراهن؛ فهناك كما قلنا جيل يجهل هذه الأحداث أو لا يعرفها إلا من خلال ما كتبه عنها خصومها منذ عام 1952م، ومن حق هذا الجيل على من شهدوا هذه الفترة بوعي وفهم أن يدلوا بشهادتهم، وسواء اقتنعوا بهذه الشهادة أم لم يقتنعوا، فلينظروا إليها على أنها مادة خام تساعدهم على المزيد من التحليل والتفكير.
كانت الفترة التي تولى فيها الوفد السلطة، بعد انتصاره الساحق في آخر انتخابات أجريت قبل الثورة، وآخر انتخابات حرة في تاريخ مصر، فترة فريدة بحق في تاريخ هذه المنطقة كلها، ومن المؤسف حقا أن أحداث عامي 1950 و1951م لم تنل حظها من الدراسة والتحليل، مع أن هذه الفترة بالذات تلقي الضوء على الكثير جدا من التطورات التالية، ولن يسمح لنا المجال ها هنا، ولا الحرص على الاحتفاظ بتسلسل المناقشة وترابطها، بأن نتحدث بأي شيء من التفصيل عن هذه الفترة الحاسمة التي تنطوي على مفاتيح تفسر أحداثا كثيرة وقعت فيما بعد، ولكن حسبنا أن نشير في عجالة إلى الخطوط العريضة لأحداث هاتين السنتين الحاسمتين، اللتين بدأتا عند استدارة القرن العشرين إلى نصفه الثاني، وكانتا نقطة تحول أساسية بين التاريخ السابق والتاريخ اللاحق.
في هاتين السنتين الحاسمتين وقعت الأحداث الكبرى الآتية: (1)
تركت الحرية للصحافة لكي تهاجم الملك - أقوى سلطة في البلد، بارتكازه على قوتي الإنجليز والجيش - واتخذ الهجوم في بعض الأحيان طابع الفضح المباشر لتصرفات الملك وأسرته، وكان مما ساعد على ضمان هذه الحرية، معركة مشهورة نشبت في ذلك الحين حول تشريعات مقيدة للصحافة (وهي تشريعات لا تساوي شيئا إذا ما قيست بالقيود الفعلية التي أصبحت تمارس ضد حرية الصحافة بعد عام 1952م)، واستطاع فيها الضغط الشعبي، ممثلا في حملة صحفية رائعة ضد التشريعات الجديدة، أن ينتصر في النهاية؛ فسحبت التشريعات، وتأكدت حرية الصحافة. (2)
قامت الحكومة، استجابة لمطالبات شعبية واسعة النطاق أيضا، بإلغاء معاهدة 1936م مع الإنجليز، وبدأ عهد الكفاح المسلح ضد القوات البريطانية في منطقة القناة، وبقدر ما كانت حركة الكفاح المسلح ارتجالية في البداية، فإنها كانت تحمل للدول الغربية الطامعة في المنطقة، وعلى رأسها القوة الإمبريالية الجديدة (أمريكا)، نذرا خطيرة إلى أبعد حد، هي تكوين نواة لجيش شعبي مدرب على مكافحة الاستعمار، وهو أكبر خطر تخشاه هذه القوى الأجنبية، وخاصة إذا انتقلت عدواه فيما بعد إلى الأقطار العربية الأخرى. (3)
وضعت أسس راسخة لمبادئ العدالة الاجتماعية وديمقراطية الحكم، فطبق مبدأ مجانية التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية، واتسع نطاق القبول المجاني في الجامعة إلى حد بعيد، وطبق طه حسين، حين كان وزيرا للتعليم، مبدأ «التعليم كالماء والهواء»، وكانت تلك هي البداية الحقيقية للتحول الاجتماعي، ليس فقط في التعليم، بل في فرص العمل وإدارة دفة المجتمع.
وهكذا كانت تلك التجربة الأخيرة لحكم الوفد هي ذروة التطور الديمقراطي الذي سارت فيه مصر طوال فترة لا تقل عن ثلاثة أرباع القرن، ومن اللافت للنظر أن هذه التجربة الرائعة كانت تتم في وجه عقبات هائلة، ولم يكن طريقها سهلا أو معبدا على الإطلاق؛ إذ كان هناك ملك مستبد يشعر بالخطر الذي يتهدده من هذه التطورات، ويتحين الفرص لإسقاط الحكومة التي ستؤدي سياستها حتما إلى القضاء عليه، وكان هناك احتلال بريطاني يريد أن يثبت أقدامه ويتعاون مع أعداء الحكومة الوطنية بكل الوسائل، وكان هناك جيش يدين قادته بالولاء المطلق للقصر، ومع كل هذه المعوقات تحقق الكثير، وازداد الشعب التفافا حول حكومته التي كانت تطور نفسها مع مطالب الجماهير، وكانت الأجنحة التقدمية فيها تكتسب مزيدا من الشعبية على حساب الأجنحة الأكثر محافظة، ولم يكن أمام الملك، إزاء هذا التأييد الشعبي الجارف لحكومته، إلا أن يلجأ إلى التآمر من أجل إزاحة الحكم الوطني؛ فكان حريق القاهرة، أو الثورة المضادة التي أثبتت، بعد وقت قصير، فشلها الكامل، وكشفت النظام الملكي في عجزه وتقلبه ووصوله إلى طريق مسدود.
لماذا، إذن، نتحدث عن هذه الفترة؟ وما علاقتها بموضوعنا الأصلي؟ السبب الأول هو أن هذه الفترة مجهولة لدى أبناء الجيل الأوسط والأصغر في عالمنا العربي بوجه عام، وفي مصر بوجه خاص،
অজানা পৃষ্ঠা