لقد قدم نجيب محفوظ في «اللص والكلاب» تجربة مفيدة، وأهم ما فيها من جديد هو التكنيك ... ومعنى هذا أن نجيب محفوظ يتطور، ويساير روح العصر، ويثبت أنه موفور الرصيد من تجارب الفن وتجارب الحياة.
في القصة المصرية القصيرة
ذكاء الملاحظة - عند الكاتب القصصي - يضعه الناقد أول ما يضع، في قائمة التقييم الفني لإنتاج هذا الكاتب؛ ذلك لأن الملاحظة الذكية - من ناحية الحكم النقدي على الأصالة - تمثل نقطة الارتكاز الجوهرية لكل ما يملكه القصاص من ملكات؛ لا بد من توفر هذه الموهبة أولا: موهبة التأمل والملاحظة ورصد الحركة الدقيقة الموحية، في نطاق الوجود الخارجي والداخلي للإنسان، وعلى الناقد بعد ذلك أن يضع في القائمة - على صعيد الترتيب الفني لإمكانيات الكاتب - كمية الرصيد الثقافي من تجربة الفهم للأصول التكنيكية، وتجربة التمثل للواقع المعاش. لقد كانت الملاحظة الذكية هي أكثر الأرصدة ثراء في فن أنطون تشيكوف، وكانت من وجهة النظر النقدية عند كثير من النقاد، هي نقطة الانطلاق الباهر لتفوق المدرسة التشيكوفية - في محيط أدب الغرب - على كل مدارس القصة القصيرة، إنه يبهرنا بصفاء الرؤية القصصية في فنه، رؤية الجزئيات الدقيقة التي يتكون منها موقف داخلي معقد، يتجسم بعد ذلك في انعكاسات حركة سلوكية معبرة؛ ومن هنا سمي تشيكوف بحق، كاتب التفصيلات الصغيرة.
هذه التفصيلات الصغيرة، نستطيع أن نتتبعها في كل ما يكتب؛ ولكنها تجذبنا بصفة خاصة، عندما يعرض تشيكوف إحدى شخصياته من خلال لحظة حرجة، بحيث تتدرج هذه اللحظة تدرجا هرميا يصل بالشخصية إلى قمة أزمة نفسية معينة. هنا نرى ذكاء الملاحظة في رصد هذا التدرج الهرمي وتسجيل تطوراته، وكأنه تجربة كيميائية في المعمل؛ تتركب من محاليل مختلفة، وتمر بمراحل متتابعة، تمتزج فيها هذه المحاليل وتتفاعل، حتى نحصل في النهاية على خلاصة التجربة أو نتيجتها النهائية. ولقد كانت مفارقات الحياة غالبا هي المحاليل المختارة لتجارب أنطون تشيكوف؛ ذلك لأن الحياة في حركتها الدينامية لا تقدم إلينا أعمق لحظاتها إلا من خلال المفارقة، من خلال ذلك التناقض المثير الذي لا نتوقعه، حين يخرج منطق الحياة أحيانا عن خط سيره المرسوم؛ عندئذ يصطدم منطق الحياة مع منطق الأحياء، ومن هنا تحدث المفارقة، وقد تكون المفارقة مضحكة أو مبكية، تبعا لجوهر التناقض بين منطقين أو اتجاهين، يحدث بينهما تصادم غير متوقع ولا منتظر.
محمد أبو المعاطي أبو النجا تلميذ
1
مجتهد في مدرسة أنطون تشيكوف؛ فيه من خصائص هذه المدرسة - في عدد من قصصه ولا أقول كلها - ذكاء الملاحظة وصفاء الرؤية الفنية، ولكن من خلال عدسة مصرية صميمة. الكاتب الذي وقف في «الطابور» ساعات طويلة ومرهقة، لم يقف لمجرد تجديد بطاقته أو لمجرد التسلية بمنظر طابور آدمي عجيب، لقد وقف يرقب الشعب ويتأمله ويلاحظ، ويفسر لنا - عن طريق عملية السرد الموحية وعلى ضوء السلوك الخارجي - أكثر من حقيقة نفسية داخلية تصنع وتوجه هذا السلوك. لقد كان الطابور قطاعا حيا من قطاعات هذا الشعب، كان كما تخيله الكاتب قد تكون بهذه الطريقة: «جاء رجل ضخم جدا وراح يمد يده في كل مكان، في الشوارع والحواري، في العمارات والأكواخ، في المصانع والمؤسسات والحقول، ويجذب من كل مكان رجلا ويأتي به إلى هذا الطابور. إن هذا الطابور قطعة من الشعب؛ شريحة منه، فيها كل خصائصه العظيمة والوضيعة على السواء.»
إن العمل الفني في قصة الطابور - من ناحية المقاييس التحديدية لأركان القصة القصيرة - يخرج من خانة «القصة» ليوضع في خانة «الصورة». إنه لا يمثل ذلك القطاع الطولي الذي تلتقي على امتداده - كما هو الحال في القصة - تلك الخيوط الصانعة لنسيج موضوعي موحد. ونحن تبعا لذلك لا نرى شخصية بعينها تنمو على مدار التجربة من خلال الحدث، بحيث تنتهي بنا إلى موقف معين ينتهي إلى اتجاه إيجابي أو سلبي، استنادا إلى جوهر التكوين النفسي لهذه الشخصية أو تأثرها بشتى الدوافع الموجهة؛ في محيط هذه المقاييس التحديدية نجد القصة القصيرة. أما «في الطابور» فهي «صورة» من حيث الإطار التكنيكي الذي يحيط بأبعادها الموضوعية؛ هي مجموعة من القطاعات المستعرضة لحياة مجموعة من النماذج البشرية، معروضة من خلال لحظة معينة تربط بين هذه النماذج من ناحية الموقف، ولكنها لا تربط بينها من ناحية الاختلافات في اتجاهات السلوك.
هذه القطاعات المستعرضة في نطاق مثل هذا التصميم البنائي، نجد لها مثيلا - مع الفارق بين طبيعة العمل الروائي وطبيعة الصورة القصصية القصيرة - في رواية «الأب جوريو» للكاتب الفرنسي بلزاك، وفي رواية «زقاق المدق» للكاتب المصري نجيب محفوظ؛ الشخصيات عند بلزاك خليط متنافر من الأحياء، يجمع بينهم بنسيون مدام «فوكيه»، ونفس هذا الخليط المتنافر تجده عند نجيب محفوظ في «زقاق المدق»، وتجده عند محمد أبو المعاطي أبو النجا في «الطابور». ومما يلفت النظر هنا وهناك أن النماذج الإنسانية المريضة، هي التي تحتل مكانها في المقدمة من مسرح الأحداث، وإن كلا من «البنسيون» و«الزقاق» و«الطابور» قد بلغ مرحلة من التجسيم المادي، جعلته يبدو وكأنه شخصية حية من شخصيات العمل الفني.
وإذا ما استعرضنا الملاحظات الذكية التي يمكن أن نلتقطها من وراء المفارقة، يواجهنا موقف الكاتب وهو يرحب عقليا وشعوريا بأن يقف في الطابور، ويخضع لنظامه الصارم؛ ذلك لأنه يريد «أن يمارس تجربة الديمقراطية على مستوى آخر غير مستوى الكلمات»، ولكنه وهو يعيش في قلب التجربة، يكتشف أخيرا أن في هذه الديمقراطية - ديمقراطية الطابور الذي تتجمد فيه الحركة - شيئا من الديكتاتورية؛ «إنه منطق الطابور اللعين يجعل كل فرد هنا أسير مصيره، أسير حظه الذي وضعه في مكان لا حرية له في اختياره!»
অজানা পৃষ্ঠা