التعريجات المتنوعة أو القطاعات أو الروافد الجانبية، هي على التوالي: رجل الدين الشيخ علي الجندي، ورجل الصحافة رءوف علوان، وامرأة الليل أو البغي الفاضلة نور. أولئك الذين يلعبون أدوارا رئيسية على مسرح الأحداث. لقد التمس سعيد مهران حلا لأزمته عند رجل الدين - صديق والده - فلم يظفر إلا بمجموعة من التهويمات الصوفية والعبارات المبهمة، والتمس نفس الحل عند رجل الصحافة - رفيق صباه - فلم يظفر بغير النفور والإعراض وتأليب رجال الأمن عليه. وعندما خذله الشرفاء أنصفه غير الشرفاء، أنصفته نور عندما اتخذ من بيتها وقلبها مأوى له ... ومع ذلك، فبقدر ما تذوق في رحابها طعم الوفاء، تذوق مرارة الأزمة: خانته الزوجة ووفت له البغي؛ أي مفارقة يعدها له القدر؟! وعندما اهتز قلبه لأول مرة بعاطفة حقيقية نحو إنسانة، وكانت هذه الإنسانة هي نور، أدرك أن وجوده قد وصل - في مرحلة صعود لا تتوقف - إلى قمة العبث. إن الكلاب تطارده ، وتتربص به، وتسد عليه المسالك؛ لا فائدة إذن من أن يبوح لها بحبه وعرفانه للجميل. إن حياته كلها قد غدت وهي تحمل معنى اللاجدوى، وكل الطرق أمام أحلامه قد أصبحت مغلقة! «أبي كان يفهمك. كم أعرضت عني حتى خلتك تطردني طردا، ورجعت بقدمي إلى جو البخور والقلق، هكذا يفعل موحش القلب الذي لا بيت له! وقال سعيد مهران للشيخ علي الجندي: مولاي، قصدتك في ساعة أنكرتني فيها ابنتي!
فقال الشيخ متأوها: يضع سره في أصغر خلقه!
فقال جادا: قلت لنفسي إذا كان الله قد مد له في العمر فسأجد الباب مفتوحا.
فقال الشيخ بهدوء: وباب السماء كيف وجدته؟ - لكني لا أجد مكانا في الأرض، وابنتي أنكرتني ... - ما أشبهها بك! - كيف يا مولاي؟ - أنت طالب بيت لا جواب. - ليس بيتا فحسب، أكثر من ذلك، أود أن أقول: اللهم ارض عني!
فقال الشيخ كالمترنم: قالت المرأة السماوية: أما تستحي أن تطلب رضا من لست عنه براض! - مولاي، ماذا كنت تفعل لو ابتليت بمثل زوجي، ولو أنكرتك كما أنكرتني ابنتي؟
فلاحت في العينين الصافيتين نظرة رثاء وقال: العبد لله لا يملكه مع الله سبب!» ••• «هذا هو رءوف علوان، الحقيقة العارية، جثة عفنة لا يواريها تراب؛ تخلقني ثم ترتد، تغير بكل بساطة فكرك بعد أن تجسد في شخصي، كي أجد نفسي ضائعا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل؛ ترى أتقر بخيانتك ولو بينك وبين نفسك، أم خدعتها كما تحاول خداع الآخرين؟ ألا يستيقظ ضميرك ولو في الظلام؟ أود أن أنفذ إلى ذاتك كما نفذت إلى بيت التحف والمرايا؛ بيتك، ولكني لن أجد إلا الخيانة. سأجد نبوية في ثياب رءوف، أو رءوف في ثياب نبوية، أو عليش مكانهما، وستعترف لي الخيانة بأنها أسمج رذيلة فوق الأرض. كذلك أنت يا رءوف، ولكن ذنبك أفظع يا صاحب العقل والتاريخ، أتدفع بي إلى السجن وتثب أنت إلى قصر الأنوار والمرايا؟ أنسيت أقوالك المأثورة عن القصور والأكواخ؟ أما أنا فلا أنسى!» ••• «لن يرى نور مرة أخرى، وخنقه اليأس خنقا ؛ ودهمه حزن شديد الضراوة، لا لأنه سيفقد عما قريب مخبأه الآمن؛ ولكن لأنه سيفقد قلبا وعطفا وأنسا؛ وتمثلت لعينيه في الظلمة بابتسامتها ودعابتها وحبها وتعاستها فانعصر قلبه؛ ودلت حاله على أنها كانت أشد تغلغلا في نفسه مما تصور، وأنها كانت جزءا من حياته الممزقة المترنحة فوق الهاوية، وأغمض عينيه في الظلام واعترف اعترافا صامتا بأنه يحبها!»
الحياة ظلام ووحدة وضياع وعبث؛ ما أكثر هذه الشعارات «الوجودية» التي تصنع الإطار النفسي لأزمة سعيد مهران، وتنتشر كلافتات موجهة في ثنايا الكثير من صفحات «اللص والكلاب»! إننا نستنشق من خلال المضمون - وفي مجال الانعكاس التأثيري لأزمة الوجود - شيئا من عطر ألبير كامي، ونستنشق من خلال التكنيك السردي - وفي مجال التعبير عن واقعة مجرى الشعور - شيئا آخر من عطر سارتر؛ ولنستعرض هذين النموذجين من «سن الرشد» ومن «اللص والكلاب»:
ولم يعد ماتيو يصغي، كان خجلا أمام هذه الصورة للألم، كان يدرك جيدا أنها لم تكن إلا صورة، ولكن مع ذلك؛ «لست أعرف أن أتألم. إنني لا أتألم أبدا بما فيه الكفاية.» كان أشق ما في العذاب أنه كان شبحا، وأن المرء يقضي وقته في الجري خلفه، ويحسب دائما أنه سيدركه ويرتمي في داخله، ولكنه ما إن يسقط فيه حتى يفر؛ «إنني أكذب.» كان انهياره وانتحابه أكاذيب وفراغا، كان قد قذف بنفسه في الفراغ، على سطح نفسه، ليفلت من ضغط عالمه الحقيقي، عالم أسود شديد الحرارة ينتن الأثير. وكانت مارسيل هي التي ستكون هالكة، إذا لم يجد خمسة آلاف فرنك قبل اليوم التالي، ستكون هالكة حقا وبلا جدوى؛ في ذلك العالم لم يكن العذاب حالة نفسية، ولم تكن ثمة حاجة إلى الكلمات للتعبير عنه، وإنما كان مظهرا للأشياء؛ تزوجها أيها البوهيمي المزيف، تزوجها يا عزيزي، لماذا لا تتزوجها؟ أراهن أنها ستموت من ذلك.
في هذا النموذج من التكنيك السردي لواقعية مجرى الشعور، استخدمت الضمائر الثلاثة في عملية العرض الداخلية لأزمة «ماتيو» بطل سارتر، وسنرى نفس الظاهرة التكنيكية بالنسبة إلى أزمة «سعيد مهران» بطل نجيب محفوظ :
ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطويا على الأسرار اليائسة، هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة والعابرون والجالسون والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة، وهو واحد، خسر الكثير حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدرا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديا. آن الغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية؛ عليش، كيف انقلب الاسمان اسما واحدا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديما ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر. استعن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة، ويطير في الهواء كالصقر، ويتسلق الجدران كالفأر، وينفذ من الأبواب كالرصاص.
অজানা পৃষ্ঠা