فأقول: إن علماء الصرف إنما يبحثون عن الكلمات باعتبار الزمن الأخير الذي وصلت إليهم فيه، وحكمهم في ذلك صحيح لا مرية فيه، وعلماء سر اللغة إنما يبحثون عنها باعتبار الزمان الأول وهو زمن ظهورها شيئا فشيئا، وحكمهم في ذلك وإن كان في الغالب بطريق الظن إلا أنه لا يصادم حكم أولئك، فكم من زائد في أول الأمر حكم له من بعد بالأصالة! وكم من مركب في الابتداء صار مفردا في الانتهاء! وانظر إلى ميم «مكن»، فإنه لا يتوقف أحد من أهل الصرف عن الحكم بأنها أصلية، فإنها نظير ميم «مرن» و«مكث»، مع أن بعضهم قال: إنها مأخوذة من المكان وميمه زائدة، فهو مفعل من الكون، لكن لكثرته في الكلام توهموا أن ميمه أصلية؛ فأجروه مجرى فعال كزمان، وجمع على أمكنة، ثم أخذ منه «مكن» و«تمكن».
وانظر إلى همزة «إمعة»، وهو الذي يتابع كل أحد على رأيه ويقول له: «أنا معك.» ومنه قول ابن مسعود: «لا يكونن أحدكم إمعة.» وقد جاء في الأثر: «اغد عالما متعلما ولا تكن إمعة.» فإنهم حكموا بأنها أصلية فوزنه فعلة، مع أن الظاهر أنها زائدة دخلت على لفظ «مع»؛ فيكون وزنه أفعلة، قالوا: لأن أفعل وأفعلة لا يكونان وصفا.
ومثل ذلك تاء «تخذ»، فإنهم حكموا بأنها أصلية مع أنها كانت في الأصل زائدة، قال علماء اللغة: يقال اتخذوا في القتال بهمزتين؛ أي أخذ بعضهم بعضا، و«الاتخاذ» افتعال أيضا من الأخذ، إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدالها بالتاء، ثم لما كثر استعماله توهموا أن التاء فيه أصلية كتاء «اتبع»: فبنوا منه فعل بالكسر فقالوا: «تخذت زيدا صديقا.» إذا جعلته كذلك، ومصدره «تخذ» بفتح الخاء وسكونها، واستبعد بعضهم ذلك فجعل «تخذ» أصلا، وجعل «اتخذ» مأخوذا منه فهما بمنزلة «تبع» و«اتبع»، ومن دقق النظر تبين له أن البناء على التوهم لا يحصى في اللغة، وأن معظم اتساعها نشأ عن ذلك؛ ومغزى الكلام هنا أن الحكم على كلمة بكونها كانت مجردة ثم زيد فيها شيء لا ينافي الحكم عليها بأنها ليس فيها زائد؛ نظرا إلى الحال الحاضر.
ويظهر لك هذا الأمر ظهورا لا خفاء بعده بأمر النحت، وهو جعل الكلمتين كلمة واحدة بعد إزالة ما يمنع التئامهما، نحو: «حيعل المنادي» أي قال: حي على كذا، قال الشاعر:
أقول لها ودمع العين جار
ألم يحزنك حيعلة المنادي؟
وقد ذكروا أن أكثر الكلمات التي تجاوزت حروفها الثلاثة منحوت، ولا يخفى أن المنحوت مفرد مع أنه كان في الأصل مركبا؛ فليس يسوغ لمن لا يعرفه أو ينكره أن يعترض على القائل به بأن الألفاظ المدعى نحتها مفردة، مع أن قاعدة النحت تقتضي أنها مركبة؛ لأن المدعي للنحت لا يخالفه في كونها الآن مفردة وقد ذكرنا في كتاب «أصول اللغة» أنه قد يعرض في بعض المواضع أن تختلف أنظار كل من علماء الصرف وعلماء اللغة وعلماء الفقه فيها ويكون لكل وجهة. والواجب على كل فريق منهم أن يعطي فنه ما يستحقه من النظر والاعتبار غير متعرض لما لا يعنيه من الاعتراض على غير أهل مذهبه؛ فإن ذلك أقرب للسلامة من الخطأ والخطل، وإن كان مليا بها كلها كان أجدر أن يعطي كل فن ما يستحقه من النظر والاعتبار لإشرافه عليها من عل، إلا أن يبدو له شيء يضطره إليه البرهان فيقول به، فإن أصاب فله مع الأجر جميل الذكر، وإن أخطأ لم ينح عليه بالملام؛ لأنه تكلم فيما له به إلمام، وعلى كل حال فليكن متمثلا بقول من قال:
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن
وإن لقيت معديا فعدناني
هذا، والإمعة بكسر الهمزة وتشديد الميم المفتوحة، وقد تفتح الهمزة، والهاء فيه للمبالغة ، ولا أستبعد أن يكون الإمعة منحوتا مما يقوله لكل من يلقاه، وهو: إني معه، حذفت النون الثانية؛ ليتيسر المزج ثم قلبت النون ميما، ثم أدغمت في ميم «مع»، فصار «إمع»، ثم زيدت فيه الهاء للمبالغة فصار: «إمعة»، ويقال أيضا: «إمع» بدون هاء.
অজানা পৃষ্ঠা