فقه العبادات على المذهب الحنبلي
فقه العبادات على المذهب الحنبلي
জনগুলি
مقدمة المؤلفة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. وبعد. فهذا مؤلف في فقه العبادات على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ﵁ وضعته بعد أن لمست الحاجة إليه في كثير من البلاد العربية والإسلامية. حيث أن هذا المذهب هو فقه أهل الحجاز والخليج العربي كله. كما ينتشر في العراق وسوريا. ويحتاج أهل هذا المذهب إلى كتاب مدرسي مبسط في هذا الفقه لمعرفة أحكامه العملية الضرورية في أداء العبادات على الوجه الصحيح. وقد يجدون في هذا الكتاب بغيتهم فنكون قد ساهمنا بنشر هذا الفقه والانتفاع به بأذن الله. وقد جمعت مادته مما تلقيته عن أستاذي في الفقه الحنبلي فضيلة الشيخ أحمد الشامي مفتي دوما وعالمها شكر الله له وأدامه ذخرًا للإسلام والمسلمين. كما عدت إلى الكتب المشهورة في هذا الفقه فأغنيت منها الموضوع. ثم عدت فعرضت ما جمعت على فضيلة الشيخ فأتحفني بملاحظاته التي أخذت بها حين تنقيح الكتاب للمرة الأخيرة قبل الطبع. وقد قمت بالتدليل على أحكامه بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وعزوت الأدلة إلى مصادرها في القرآن الكريم وكتب الحديث الشريف. وإني إذ أتقدم بهذا الكتاب، أرجو الله أن أكون قد وفقت في عرضه وتصنيفه بالشكل الذي يسهل فهمه وتطبيقه عسى أن ينفع الله به المسلمين. والله أسأل أن يتقبل مني هذا العمل المتواضع لخدمة دينه. ويجزي عني أعظم الجزاء كل من أعانني على إنجازه وإخراجه إنه سميع مجيب.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. وبعد. فهذا مؤلف في فقه العبادات على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ﵁ وضعته بعد أن لمست الحاجة إليه في كثير من البلاد العربية والإسلامية. حيث أن هذا المذهب هو فقه أهل الحجاز والخليج العربي كله. كما ينتشر في العراق وسوريا. ويحتاج أهل هذا المذهب إلى كتاب مدرسي مبسط في هذا الفقه لمعرفة أحكامه العملية الضرورية في أداء العبادات على الوجه الصحيح. وقد يجدون في هذا الكتاب بغيتهم فنكون قد ساهمنا بنشر هذا الفقه والانتفاع به بأذن الله. وقد جمعت مادته مما تلقيته عن أستاذي في الفقه الحنبلي فضيلة الشيخ أحمد الشامي مفتي دوما وعالمها شكر الله له وأدامه ذخرًا للإسلام والمسلمين. كما عدت إلى الكتب المشهورة في هذا الفقه فأغنيت منها الموضوع. ثم عدت فعرضت ما جمعت على فضيلة الشيخ فأتحفني بملاحظاته التي أخذت بها حين تنقيح الكتاب للمرة الأخيرة قبل الطبع. وقد قمت بالتدليل على أحكامه بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وعزوت الأدلة إلى مصادرها في القرآن الكريم وكتب الحديث الشريف. وإني إذ أتقدم بهذا الكتاب، أرجو الله أن أكون قد وفقت في عرضه وتصنيفه بالشكل الذي يسهل فهمه وتطبيقه عسى أن ينفع الله به المسلمين. والله أسأل أن يتقبل مني هذا العمل المتواضع لخدمة دينه. ويجزي عني أعظم الجزاء كل من أعانني على إنجازه وإخراجه إنه سميع مجيب.
1 / 5
تقديم الشيخ أحمد الشامي، مفتي دوما وعالمها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي مهد قواعد الدين بكتابه المنزل، وجعلنا من عباده المؤمنين بإتباع نبيه المرسل، الذي أظهر به الحق بعد أن كان خفيًا، واختاره على كافة خلقه وكان به خفيًا [حفيا؟؟] . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبوئ قائلها أعلى المقامات، وتحله من دار كرامته أعلى الغرف في الجنات. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيد الخلق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ألي المناقب العالية الكريمة. أما بعد: فإن علم الفقه من أجلّ العلوم الشرعية إذ به يتعرف المرء أحكام الأقوال والأفعال من واجب ومندوب ومباح ومكروه وحرام، ومن ثم يوجه حياته سواء في عبادته أو تعامله مع الناس وفقًا لأوامر الله سبحانه وأوامر رسوله ﷺ فيفوز بسعادة الدارين. وبهذا المعنى جاء قوله ﵊ "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ويلهمه رشده" ولقد أحسن الإمام الشافعي ﵁ حين قال: كل العلوم سوى القرآن مشغلة * إلا الحديث وإلا الفقه في الدين ولقد اطلعت على هذا الكتاب "فقه العبادات" فوجدت مؤلفته قد قامت بمجهود جيد مشكور في ترتيبه وعرض أحكامه عرضًا واضحًا يسهل على طلاب العلم وغيرهم تفهم أحكام دينهم مقرونة بالدليل من الكتاب والسنة واجتهاد الأئمة المجتهدين في مذهب الإمام أحمد بن حنبل الذي بذل حياته مع الأئمة الآخرين رضي ⦗٨⦘ الله عنهم لإرشاد الناس ووضعهم على الطريق الصحيح الذي اختاره لهم رسولهم الكريم ﷺ، ولشدة تمسك هذا الإِمام الورع بسنة رسول الله ﷺ وأقوال أصحابه رضوان الله عليهم نرى كثيرًا من العلماء اختار مذهبه. وفي ذلك قال شيخ الإسلام مرعي بن يوسف الحنبلي صاحب التصانيف العديدة في المذهب: لئن قلد الناس الأئمة إنني * لفي مذهب الحبر ابن حنبل راغب أقلد فتواه وأعشق قوله * وللناس فيما يعشقون مذاهب أسأل الله ﵎ أن ينفع بهذا الكتاب كما نفع بغيره وأن يجزي مؤلفته عن المسلمين خير الجزاء وأن يوفقنا جميعًا لمواصلة طريق العم [العمل؟؟] لنكون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين. كتبه الفقير إليه تعالى أحمد بن صالح الشامي في ٥/ ٩/١٤٠٥ هـ الموافق لـ٢٤/٥/١٩٨٥ م
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي مهد قواعد الدين بكتابه المنزل، وجعلنا من عباده المؤمنين بإتباع نبيه المرسل، الذي أظهر به الحق بعد أن كان خفيًا، واختاره على كافة خلقه وكان به خفيًا [حفيا؟؟] . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبوئ قائلها أعلى المقامات، وتحله من دار كرامته أعلى الغرف في الجنات. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيد الخلق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ألي المناقب العالية الكريمة. أما بعد: فإن علم الفقه من أجلّ العلوم الشرعية إذ به يتعرف المرء أحكام الأقوال والأفعال من واجب ومندوب ومباح ومكروه وحرام، ومن ثم يوجه حياته سواء في عبادته أو تعامله مع الناس وفقًا لأوامر الله سبحانه وأوامر رسوله ﷺ فيفوز بسعادة الدارين. وبهذا المعنى جاء قوله ﵊ "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ويلهمه رشده" ولقد أحسن الإمام الشافعي ﵁ حين قال: كل العلوم سوى القرآن مشغلة * إلا الحديث وإلا الفقه في الدين ولقد اطلعت على هذا الكتاب "فقه العبادات" فوجدت مؤلفته قد قامت بمجهود جيد مشكور في ترتيبه وعرض أحكامه عرضًا واضحًا يسهل على طلاب العلم وغيرهم تفهم أحكام دينهم مقرونة بالدليل من الكتاب والسنة واجتهاد الأئمة المجتهدين في مذهب الإمام أحمد بن حنبل الذي بذل حياته مع الأئمة الآخرين رضي ⦗٨⦘ الله عنهم لإرشاد الناس ووضعهم على الطريق الصحيح الذي اختاره لهم رسولهم الكريم ﷺ، ولشدة تمسك هذا الإِمام الورع بسنة رسول الله ﷺ وأقوال أصحابه رضوان الله عليهم نرى كثيرًا من العلماء اختار مذهبه. وفي ذلك قال شيخ الإسلام مرعي بن يوسف الحنبلي صاحب التصانيف العديدة في المذهب: لئن قلد الناس الأئمة إنني * لفي مذهب الحبر ابن حنبل راغب أقلد فتواه وأعشق قوله * وللناس فيما يعشقون مذاهب أسأل الله ﵎ أن ينفع بهذا الكتاب كما نفع بغيره وأن يجزي مؤلفته عن المسلمين خير الجزاء وأن يوفقنا جميعًا لمواصلة طريق العم [العمل؟؟] لنكون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين. كتبه الفقير إليه تعالى أحمد بن صالح الشامي في ٥/ ٩/١٤٠٥ هـ الموافق لـ٢٤/٥/١٩٨٥ م
1 / 7
لمحة عن حياة الإمام أحمد
أحمد بن حنبل ﵁ ⦗١١⦘ لمحة عن حياته (١٦٤-٢٤١ هـ)
أحمد بن حنبل ﵁ ⦗١١⦘ لمحة عن حياته (١٦٤-٢٤١ هـ)
1 / 9
نسبه:
هو الإمام الذي أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني الذهلي. وهو شيباني في نسبه لأبيه وأمه واسمها صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني من بني عامر. فقد انحدر الإِمام أحمد من قبيلة عربية أصيلة غير أعجمية ولا مهجنة، والتقى نسبه الشريف مع النبي ﷺ في نزار بن معد بن عدنان. وقبيلة شيبان هذه عرفت بالهمة والإباء وشدة الشكيمة والصلابة، كان منها المثنى بن حارثة، القائد الإسلامي المعروف. وكان جده حنبل واليًا على سرخس في العهد الأموي ويدعو للعباسيين حين لاح نجمهم في الأفق. وكان أبوه محمد جنديًا من جنود الحرب بل وصفه الأصمعي أنه كان قائدًا. وقد ورث أحمد ﵁ عن أسرته الكريمة عزة النفس وقوة العزم، والصبر واحتمال المكاره، والإيمان الراسخ القوي، وكان ذلك كله ينمو كلما شب وترعرع، ويتبين في سجاياه، كلما عركته الحوادث، وأصابته نيران الفتن. مولده ونشأته: ولد أحمد ﵁ في ربيع الأول سنة ١٦٤ هـ، جيء به حملا من مرو، وولد في بغداد، توفي أبوه شابًا، فقامت أمه على تربيته في ظل الباقي من أسرة أبيه. وكان أبو قد ترك له عقارًا ببغداد يسكنه، وآخر يغل له غلة قليلة لا تقوم بنفقات الأسرة، فنشأ على الصبر والقناعة والكفاف. وكان في هذا كشيخه الشافعي: نسب رفيع، ويتم، وحال من الفقر الذي يجد فيه الكفاف، ولا يستخذي بالحاجة، وهمة عالية، ونفس أبية، وعقل ذكي أريب ولقد تشابهت نشأة التلميذ والأستاذ تشابهًا غريبًا، فكلاهما كان بهذه الأحوال التي ذكرناها، وكلاهما كانت أم ترعاه وتدفعه إلى العلا، وتكنف مواهبه لتزكو وتنمو لا تجعلها تنطفئ أو تخبو. ⦗١٢⦘ حفظ أحمد ﵁ القرآن وهو غلام، وتعلم علوم اللغة، وتعلم علوم اللغة، ثم اتجه إلى الديوان يمرن على التحرير، ويقول عن نفسه: "كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب، ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة". وكانت نشأته فيها آثار النبوغ والرشد حتى قال بعض الآباء: "أنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم! انظروا كيف؟! وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته". وكان عمه يرسل الكتب إلى بعض الولاة بأحوال بغداد، ليعلم بها الخليفة، وقد أرسلها مرة مع ابن أخيه، أحمد بن حنبل، فتورع عن ذلك، ورمى بها الماء تأثمًا عن الوشاية والتسبب لما عسى أن يكون فيه ضرر بالمسلمين، وقد لفت هذا الورع وهذه النجابة نظر كثيرين من أهل العلم والفراسات، حتى قال الهيثم بن جميل: "إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه". ويظهر أن هذه الفراسة (١) قد تحققت، فقد عاش الفتى، حتى وصل إلى السابعة والسبعين، وكان نورًا لأهل زمانه، بعلمه وخلقه وورعه، وصبره وقوة احتماله، واستهانته بالأذى في سبيل ما يعتقد. _________ (١) في الأصل "هذه النبوءة"، وقد استبدلناها بـ "هذه الفراسة" لمنع الإشكال، ولثقتنا أن هذا مقصود المؤلفة لا ريب، وينسجم مع قولها السابق: وقد لفت هذا الورع وهذه النجابة نظر كثيرين من أهل العلم والفراسات ... مشروع المحدّث.
هو الإمام الذي أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني الذهلي. وهو شيباني في نسبه لأبيه وأمه واسمها صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني من بني عامر. فقد انحدر الإِمام أحمد من قبيلة عربية أصيلة غير أعجمية ولا مهجنة، والتقى نسبه الشريف مع النبي ﷺ في نزار بن معد بن عدنان. وقبيلة شيبان هذه عرفت بالهمة والإباء وشدة الشكيمة والصلابة، كان منها المثنى بن حارثة، القائد الإسلامي المعروف. وكان جده حنبل واليًا على سرخس في العهد الأموي ويدعو للعباسيين حين لاح نجمهم في الأفق. وكان أبوه محمد جنديًا من جنود الحرب بل وصفه الأصمعي أنه كان قائدًا. وقد ورث أحمد ﵁ عن أسرته الكريمة عزة النفس وقوة العزم، والصبر واحتمال المكاره، والإيمان الراسخ القوي، وكان ذلك كله ينمو كلما شب وترعرع، ويتبين في سجاياه، كلما عركته الحوادث، وأصابته نيران الفتن. مولده ونشأته: ولد أحمد ﵁ في ربيع الأول سنة ١٦٤ هـ، جيء به حملا من مرو، وولد في بغداد، توفي أبوه شابًا، فقامت أمه على تربيته في ظل الباقي من أسرة أبيه. وكان أبو قد ترك له عقارًا ببغداد يسكنه، وآخر يغل له غلة قليلة لا تقوم بنفقات الأسرة، فنشأ على الصبر والقناعة والكفاف. وكان في هذا كشيخه الشافعي: نسب رفيع، ويتم، وحال من الفقر الذي يجد فيه الكفاف، ولا يستخذي بالحاجة، وهمة عالية، ونفس أبية، وعقل ذكي أريب ولقد تشابهت نشأة التلميذ والأستاذ تشابهًا غريبًا، فكلاهما كان بهذه الأحوال التي ذكرناها، وكلاهما كانت أم ترعاه وتدفعه إلى العلا، وتكنف مواهبه لتزكو وتنمو لا تجعلها تنطفئ أو تخبو. ⦗١٢⦘ حفظ أحمد ﵁ القرآن وهو غلام، وتعلم علوم اللغة، وتعلم علوم اللغة، ثم اتجه إلى الديوان يمرن على التحرير، ويقول عن نفسه: "كنت وأنا غليم أختلف إلى الكتاب، ثم اختلفت إلى الديوان وأنا ابن أربع عشرة سنة". وكانت نشأته فيها آثار النبوغ والرشد حتى قال بعض الآباء: "أنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل غلام يتيم! انظروا كيف؟! وجعل يعجب من أدبه وحسن طريقته". وكان عمه يرسل الكتب إلى بعض الولاة بأحوال بغداد، ليعلم بها الخليفة، وقد أرسلها مرة مع ابن أخيه، أحمد بن حنبل، فتورع عن ذلك، ورمى بها الماء تأثمًا عن الوشاية والتسبب لما عسى أن يكون فيه ضرر بالمسلمين، وقد لفت هذا الورع وهذه النجابة نظر كثيرين من أهل العلم والفراسات، حتى قال الهيثم بن جميل: "إن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه". ويظهر أن هذه الفراسة (١) قد تحققت، فقد عاش الفتى، حتى وصل إلى السابعة والسبعين، وكان نورًا لأهل زمانه، بعلمه وخلقه وورعه، وصبره وقوة احتماله، واستهانته بالأذى في سبيل ما يعتقد. _________ (١) في الأصل "هذه النبوءة"، وقد استبدلناها بـ "هذه الفراسة" لمنع الإشكال، ولثقتنا أن هذا مقصود المؤلفة لا ريب، وينسجم مع قولها السابق: وقد لفت هذا الورع وهذه النجابة نظر كثيرين من أهل العلم والفراسات ... مشروع المحدّث.
1 / 11
طلبه للعلم ومنزلته العلمية:
١- طلبه للعلم: اتجه أحمد ﵁ إلى طلب العلم الذي وجهته أسرته إليه واستقام ذلك التوجيه مع نزوعه الخاص. وبذلك تلاقت ميوله مع الوجهة التي وجه إليها، وكانت بغداد فيها علوم الدين، واللغة، والرياضة، والفلسفة، والتصوف إذ كانت حاضرة العالم الإسلامي. فاختار الإِمام أحمد في صدر حياته رجال الحديث ومسلكهم فاتجه إليهم أول اتجاهه، ويظهر أنه قبل أن يتجه إلى المحدثين راد طريق الفقهاء الذين جمعوا بين الرأي والحديث، فيروى أن أول تلقيه كان على القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة فقد قال: "أول من كتبت عنه الحديث أبو يوسف". ولكنه مال من بعد إلى المحدثين الذين انصرفوا بجملتهم ⦗١٣⦘ للحديث، وبقي يتلقى الحديث بغداد من سنة ١٧٩ هـ إلى سنة ١٨٦ هـ ولزم عالمًا كبيرًا من علماء الحديث وآلاثار ببغداد أربع سنوات، وهو شيم بن بشير بن أبي حازم الوسطي (المتوفي سنة ١٨٣ هـ) . وكانت سنه عند الملازمة حوالي الست عشرة سنة، وكتب الإِمام أحمد عنه كتاب الحج وبعضًا من التفسير وكتاب القضاء وكتبًا صغارًا. ولقد استمع أيضًا ملازمته لهشيم إلى عبد الرحمن بن مهدي وأبي بكر بن عباس. وبعد موت هشيم أخذ أحمد ﵁ يتلقى الحديث حيثما وجده وحيثما كان؛ ومكث ببغداد نحو ثلاث سنوات يأخذ من شيوخها بجد وأدب ونشاط، فقد ذكر عن نفسه " "كنت ربما أردت البكور في الحديث؛ فتأخذ أمي بثيابي، حتى يؤذن الناس أو حتى يصبحوا".
١- طلبه للعلم: اتجه أحمد ﵁ إلى طلب العلم الذي وجهته أسرته إليه واستقام ذلك التوجيه مع نزوعه الخاص. وبذلك تلاقت ميوله مع الوجهة التي وجه إليها، وكانت بغداد فيها علوم الدين، واللغة، والرياضة، والفلسفة، والتصوف إذ كانت حاضرة العالم الإسلامي. فاختار الإِمام أحمد في صدر حياته رجال الحديث ومسلكهم فاتجه إليهم أول اتجاهه، ويظهر أنه قبل أن يتجه إلى المحدثين راد طريق الفقهاء الذين جمعوا بين الرأي والحديث، فيروى أن أول تلقيه كان على القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة فقد قال: "أول من كتبت عنه الحديث أبو يوسف". ولكنه مال من بعد إلى المحدثين الذين انصرفوا بجملتهم ⦗١٣⦘ للحديث، وبقي يتلقى الحديث بغداد من سنة ١٧٩ هـ إلى سنة ١٨٦ هـ ولزم عالمًا كبيرًا من علماء الحديث وآلاثار ببغداد أربع سنوات، وهو شيم بن بشير بن أبي حازم الوسطي (المتوفي سنة ١٨٣ هـ) . وكانت سنه عند الملازمة حوالي الست عشرة سنة، وكتب الإِمام أحمد عنه كتاب الحج وبعضًا من التفسير وكتاب القضاء وكتبًا صغارًا. ولقد استمع أيضًا ملازمته لهشيم إلى عبد الرحمن بن مهدي وأبي بكر بن عباس. وبعد موت هشيم أخذ أحمد ﵁ يتلقى الحديث حيثما وجده وحيثما كان؛ ومكث ببغداد نحو ثلاث سنوات يأخذ من شيوخها بجد وأدب ونشاط، فقد ذكر عن نفسه " "كنت ربما أردت البكور في الحديث؛ فتأخذ أمي بثيابي، حتى يؤذن الناس أو حتى يصبحوا".
1 / 12
٢- رحلاته العلمية: ابتدأ الإِمام أحمد رحلاته في سنة ١٨٦ هـ؛ ليتلقى الحديث عن الرجال شفاهًا ويكتب عن أفواههم ما يقولون؛ فرحل إلى البصرة؛ ورحل إلى الحجاز؛ ورحل إلى اليمن؛ ورحل إلى الكوفة؛ وما سمع بعالم إلا رحل إليه، إلا إن حالت المنية دون اللقاء، فلم يستطع الاستماع إلى الإِمام مالك، إذ مات الأخير عند ابتدائه في طلب الحديث، ولم يتمكن من الاستماع إلى ابن المبارك إذ أن آخر قدمة له ببغداد كانت في السنة التي اتجه فيها أحمد ﵁ إلى طلب الحديث، ولم يظفر بلقائه، كما ضاقت نفقته عن الرحلة إلى الري وقال: "لو كان عندي خمسون درهمًا لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد".
وكما رحل الإِمام أحمد في سبيل طلب العلم رحل في سبيل الحج، فقد روى لنا أنه حج خمس مرات، ثلاثًا على قدميه واثنتين راكبًا.. وفي سنة ١٨٧ هـ التقى في رحلته إلى الحجاز مع الإِمام الشافعي، وأخذ عنه الفقه وأصوله، وعلم الناسخ والمنسوخ، ولقي الإِمام الشافعي بعد ذلك ببغداد، وقد حرر الشافعي فقهه، ونضج أحمد ﵁ في الحديث وعلم الرواية، حتى كان الإِمام الشافعي يقول له: "إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به". ⦗١٤⦘ إذن كان الإِمام أحمد يحتفي بطلب الحديث وآثار الرسول ﷺ وفتاوى أصحابه كما كان
يطلب علم الفقه والاستنباط، وكان معجبًا في هذا الباب بمنهج الشافعي الفقهي في القياس والاستنباط؛ واعترف بذكائه الباهر وقوة قياسه حتى قال: "ما رأت عيناي مثله".
ومما يدل على علو همة أحمد ﵁ في طلب العلم واستطابته المشقة في سبيل ذلك، قصة يرويها ولده صالح، قال: "عزم أبي على الخروج إلى مكة، ورافق يحيى بن معين، قال أبي: نحج ونمضي إلى صنعاء إلى عبد الرزاق (١)، قال: فمضينا حتى دخلنا مكة، فإذا عبد الرزاق في الطواف، وكان يحيى يعرفه، فطفنا ثم جئنا إلى عبد الرزاق، فسلم عليه يحيى، وقال: هذا أخوك أحمد بن حنبل، فقال: حياه الله! إنه ليبلغني عنه كل ما أُسَرّ به، ثبته الله على ذلك! ثم قام لينصرف، فقال يحيى: ألا نأخذ عليه الموعد؟ فأبى أحمد وقال: لم أغير النية في رحلتي إليه، ثم سافر إلى اليمن لأجله، وسمع عنه الكتب وأكثر عنه".
واستمر على هذا الجد والطلب حتى بلغ مبلغ الإِمامة في الحديث والفقه، قال عبد الله ابن أحمد، سمعت أبا زرعة يقول: "كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له، وما يدريك؟ قال: ذاكرته، فأخذت عليه الأبواب". وقال أبو عبيدة: "ما رأيت رجلًا أعلم بالسنة من أحمد". وقال القاسم بن سلام: "انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل، علي بن المديني، أبي بكر بن شيبة ويحيى ابن معين. وأحمد أفقههم! " وقال أحمد بن سعيد الرازي: "ما رأيت أسود الرأس، أحفظ لحديث رسول الله ﷺ ولا أعلم بفقه من أحمد بن حنبل". وقد شهد له الإمام الشافعي بذلك فقال: "خرجت من بغداد، وما خلفت به أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أعلم من أحمد".
وقد استمر أحمد ﵁ على جده في طلب العلم، حتى بعد أن بلغ مبلغ الإمامة، وكان رحمه الله تعالى يقول: "أنا أطلب العلم إلى أن أدخل ⦗١٥⦘ القبر". وهكذا كان الإمام أحمد يسير على الحكمة المأثورة: "لا يزال الرجل عالمًا ما دام يطلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل".
_________
(١) عبد الرزاق بن همام: إمام الحديث في اليمن.
1 / 13
٣- جلوسه للتحديث والفتوى: جلس أحمد ﵁ للتدريس والفتيا في المسجد الجامع ببغداد، وقد بلغ الأربعين، فوافق في نشر علم النبوءة سن النبوءة، وكان إقبال الناس على مجالسه عظيمًا إذ كان ذكره قد ذاع في الآفاق الإسلامية قبل أن يتخذ مجلسًا، ويروى عدد من كانوا يستمعون إلى درسه نحو خمسة آلاف، وأنه كان يكتب منهم نحو خمسمائة.
وكانت مجالسه تمتاز بالوقار والسكينة وحسن الإنصات وإجلال العلم، وكانت بعيدة عن الدعابة والهزل وكل ما يذهب رواء العلم وروعة الدين، واكن للفقراء تقديم على الأمراء والأغنياء، نقل الذهبي عن المروزي قال: " لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله، كان مائلًا إليهم، مقصرًا عن أهل الدنيا وكان فيه حلم ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر، يقعد حيث انتهى به المجلس".
ويظهر أنه كان له مجلسان للدرس والتحديث أحدهما: في منزله يحدث فيه خاصة تلاميذه وأولاده، والثاني: في المسجد يحضر إليه العامة والتلاميذ. وكانت دروسه من حيث موضوعها قسمين: أولهما: رواية الحديث ونقله: وهذه يميلها على تلاميذه من كتاب لا اتهامًا لذاكرته، بل حرصًا على جودة النقل وإبعاد لمظنة الخطأ ما أمكن، وفي الأحوال النادرة جدًا كان يقول الحديث من غير رجوع إلى كتاب.
وثانيهما: فتاويه الفقهية التي كان يضطر إلى استنباطها، وهذه لا يسمح لتلاميذه أن يدونوها، ولا يسمح لهم أن ينقلوها عنه، إذ أنه ما كان يستجيز التدوين إلا لأحاديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. إلا أنه اضطر في آخر أمره أن يجيز كتابة فتاويه، بل نشرها؛ وبخاصة بعد محنته وذيوع اسمه وشهرته في كل البقاع ⦗١٦⦘ الإسلامية بعلوم الدين كلها، سواء ما كان يتصل بالعقيدة أم بالحديث والفقه.
فقد كان الناس يقصدونه للفتوى من أقصى العراق والشام وخراسان لمنزلته وشهرته في الورع والتقوى والفقه، فكثرت فتاويه حتى يروي العليمي في بيان علم الإمام أحمد ﵁ ومنزلة فقهه أن عبد الوهاب الوراق قال: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل فقالوا له وأي شيء بان لك من فضله؟، فقال: رجل سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب فيها: حَدَّثنا وأخبَرَنا".
وهذا الكلام يدل على أن الإمام أحمد كان يعتمد في فتاويه على أحاديث وأخبار وآثار السلف الصالح ﵃، وهو يُعتبر في ذلك الحجة الثَبْتَ الذي لا يُجارى ولا يُباري. ولم يبح لنفسه أن يجتهد وأن يستنبط إن لم يجد ضرورة تستدعي ذلك. ولحرص أحمد ﵁ في فقهه أن يكون بعيدًا عن الابتداع في الدين كان لا يفتي إلا فيما يقع من الأمور.
وإذا كان الإفتاء في الأمور المتوقعة يكسب الفقه ضبطًا، وإحكامًا في الصياغة، فإن الإفتاء في الأمور الواقعة يكسبه حياة وقوة، ولذلك كان الفقه الحنبلي المأثور حيًا نضرًا، ريّان المحيّا، فيه جلال السلف؛ إذ هو أثر، أو من ينبوع الأثر، ولقد كان أحمد ﵁ لتمرسه بالآثار قوي الإدراك لما يشبهها فينطق به، لأن فكره تكون منه، وأُشرب به، ومازج عقله وأطواء نفسه.
وهكذا كان الإمام أحمد سلفيًا في فقهه وفتاويه، لا يقفوا ما ليس به علم، لأنه يعتقد أن الخروج عن تلك الجادة زيغ عن منهج السلف، لا يتكلف التعمق في مسائل عقلية قد تكون متاهات للعقل البشري، وإذا خرج من وعثائها سالمًا فقد جهد نفسه في غير طائل، وشغل فكره في غير جدوى، ولها عن ذكر الله، وصد نفسه عن سبيل العبادة.
وبذلك نرى كيف انعقدت الإمامة لأحمد ﵁ في الفقه والورع والسنة قال الحافظ الذهبي يصفه: "هو عالم العصر، وزاهد الوقت، ومحدث الدنيا، ومفتي العراق، وعالم السنة، وباذل نفسه في المحنة، وقل أن ترى العيون ⦗١٧⦘ مثله، كان رأسًا في العلم والعمل، والتمسك بالأثر، ذا عقل رزين، وصدق متين، وإخلاص مكين، وخشية ومراقبة للعزيز العليم، وذكاء وفطنة وفهم وسعة علم....".
ولقد هيأته لهذه المكانة أربعة عوامل
أولها: صفاته.
وثانيها: الموجهون له من الشيوخ ومن يتصل بهم.
وثالثها: دراسته الخاصة.
ورابعها: العصر الذي أظله والبيئة التي اكتنفته.
ولنتجه إلى بيان كل عامل من هذه العوامل، ليتجلى لنا كيف تكونت لأحمد ﵁ تلك الثروة العلمية الضخمة.
-١ - صفاته:
اتصف أحمد ﵁ بصفات كانت هي السبب في هذه الشهرة التي اكتسبها، وفي ذلك العلم الغزير الذي خلفه من بعده.
- أول هذه الصفات الحافظة القوية الواعية، وهي صفة عامة المحدثين، وأهل الإمامة منهم بشكل خاص. ولقد شهد بقوة حفظه وضبطه معاصروه حتى عدَّ أحفظهم.
- والصفة الثانية، وهي أبرز صفات أحمد ﵁، وهي التي أذاعت ذكره، صفة الصبر والجلد وقوة الاحتمال، وهي مجموعة من السجايا الكريمة، أساسها قوة الإرادة، وصدق العيمة وبعد الهمة. وهذه الصفة هي التي جعلته يحتمل ما يحتمل في طلب العلم، غير وانٍ ولا راضٍ بالقليل منه.
ولقد كانت صفة الصبر التي امتاز بها الإمام أحمد من نوع الصبر الجميل، فقد نزل به الأذى (١) فما أنّ، وما ضج بالشكوى. وكان فيه صاحب الجنان الثابت ⦗١٨⦘ الذي لا يطيش ولا يذهب. ومما يروى دليلًا على ذلك أنه أدخل على الخليفة في أيام المحنة، وقد هولوا عليه لينطق بما ينجيه ويرضيهم، وقد ضرب عنق رجلين في حضرته، ولكنه في وسط ذلك المنظور المروع، وقع نظره أيضًا على بعض أصحاب الشافعي، فسأله: وأي شيء تحفظ عن الشافعي في المسح على الخفين، فأثار ذلك دهشة الحاضرين، وراعهم ذلك الجنان الثابت الذي ربط الله على قلب صاحبه، حتى لقد قال خصمه أحمد بن أبي داؤد متعجبًا: "انظروا لرجل هو ذا يقدم لضرب عنقه، فيناظر في الفقه".
- وكان أحمد ﵁ كثير العفو عمن يسيء إليه، أغلظ له رجل الكلام وتركه مغضبًا ثم عاد إليه نادم، وقال له المعتذر: يا أبا عبد الله! إن الذي كان مني على غير تعمد، فأنا أحب أن تجعلني في حل، فقال أحمد ﵁: "ما زالت قدماي من مكانها حتى جعلتك في حل". وقد عفا عن كل من أساء إليه، أو تسبب في عقوبته ومحنته.
- أما الصفة الثالثة من صفات الإمام أحمد التي امتاز بها فهي النزاهة بأدق معانيها، ولقد دفعته عفة النفس أو نزاهتها أن يترك بعض الحلال، وأن يمتنع عن قبول عطاء الخلفاء، مع تصريحه لبعض أولاده بأنه حلال يصح الحج منه، وأنه يتركه تنزيهًا للنفس، لا تحريمًا.
وبهذا التضييق الذي سلكه في شأن نفسه، كان يأكل إلا من كسب يده، أو من غلة عقار ورثه، ويلقى في سبيل ذلك العناء الشديد، والحرمان من كثير من طيبات الحياة، ولهذا كان زاهدًا، ولكنه زهد، ليس أساسه رغبة الرغبة عن طيبات الحياة، بل أساسه طلب الحلال، ولكن لا يطلبه من مال فيه شبهة، بل من مال يناله من غير أن تصاب النفس في نزاهتها أو عزتها، ومن غير أن يلجأ في ذلك إلى أحد من العباد. وقد كان يضطر في بعض الأحيان أن يؤجر نفسه للحمل في الطريق -وهو إمام المسلمين- يومئذ - وقد ابتلي في أيام المتوكل بالإقبال والصلات والجوائز، كما ابتلي في أيام المعتصم بالتعذيب والصرم والقسوة، وكان في ⦗١٩⦘ كليهما صابرًا عفيفًا نزيهًا، وكانت الأولى أشد عليه من الأخرى، وقد ثبت على عفافه وزهده وعزوفه عن أموال السلطان وله في ذلك أخبار غريبة. ويروى أن وزير المتوكل كتب له: "إن أمير المؤمنين قد وجه إليك جائزة، ويأمرك بالخروج إليه، فالله الله أن تستعفي، أو ترد المال، فيتسع القول لمن يبغضك" فيضطر أحمد ﵁ ليبدد ظلمات السعاية إلى القبول، ولكنه لا يمسه، ويأمر ولده صالحًا أن يأخذه ثم يوزعه في اليوم التالي على أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من أهل التجمل والحاجة، وكأنه يرى أنهم أولى بمال المسلمين منه، وقد حرموا عطاءهم.
وقد استفاد أحمد من هذا الزهد والتوكل على الله قوة روحية، وصلة عميقة بالله، وإنابة إليه، استحق بها النصر، وتغلب على نزوات النفس وشهواتها.
- والصفة الرابعة من صفات الإمام أحمد هي الإخلاص. والإخلاص في طلب الحقيقة ينقي النفس من أدران الغرض، فتستنير البصيرة، ويستقيم الإدراك، ويشرق القلب بنور المعرفة وهداية الحق. ولهذا كان أحمد ﵁ يتجنب الرياء ويبالغ في الابتعاد عنه، وكان يؤثر أن لا يسمع به أحد فكان يقول: "أريد النزول بمكة ألقي نفسي في شعب من تلك الشعاب حتى لا أعرف".
ولهذا المعنى الجليل الذي سيطر على نفسه، فجعلها خالصة لربه كان يستقل ما يقوم به من عبادات ولا يستكثر ما وقع له من محنة، فكان لا يذكرها ويستر آثارها، وكان بعيدًا عن الزهو والافتخار، متواضعًا لله، متطامنًا للناس، ولا يفتخر في شيء، قال يحيى بن معين: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبته خمسين سنة، ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الصلاح والخير".
- وقد وضع الله له القبول في قلوب العباد، وطار ذكره في الآفاق، ودعا له المسلمون، وتقربوا بحبه إلى الله، وهو يخاف على نفسه من الاستدراج، قال المروزي: "قلت لأبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك! قال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا، بأي شيء هذا؟ ". ⦗٢٠⦘
وقد كان كثير من غير المسلمين يجلّونه ويخضعون له، ويعتقدون فيه الصلاح، ويتبركون بزيارته، قال المروزي: "أدخلت نصرانيًا على أبي عبد الله يعالجه، فقال: يا أبا عبد الله! إني أشتهي أن أراك منذ سنين، ما بقاؤك صلاح الإسلام وحده، بل للخلق جميعًا، وليس من أصحابنا أحد إلا رضي بك".
- أما الصفة الخامسة التي امتاز بها الإمام أحمد، وجعلت لدروسه وكلامه موقع من نفوس سامعيه لا تزول، فهي الهيبة. فقد كان مهيبًا وقورًا، وكان الناس مدفوعين إلى إجلاله وتهيبه شأن " من تواضع لله رفعه الله" يقول أحد معاصريه: "دخلت على إسحاق بن إبراهيم، وفلان وفلان من السلاطين، فما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل، صرت إليه، أكلمه في شيء، فوقعت علي الرعدة حين رأيته من هيبته".
_________
(١) سيرد تفصيل محنته.
1 / 15
-٢- شيوخه:
يعتبر من شيوخ أحمد ﵁ كل من تلقى عليهم فقهًا، أو أخذ عنهم سنة، أو روى عنهم حديثًا، سواء أكان قد انتقل إليهم، أم كانوا معه في بغداد، وقد أحصى ابن الجوزي في مناقب أحمد شيوخه عدًا، فتجاوزت حسبتهم المائة. وكان تنوع شيوخه من أسباب كثرة تحصيله، وعمق معلوماته!. والذي لا شك فيه أنه كان لبعضهم أثر أكبر من البعض الآخر في حسن التوجيه وسداد الرأي.
ومن أبرز الشخصيات التي كان لها بالغ الأثر في توجيهه إلى السنة، وفي توجيهه إلى السنة، وفي توجيهه إلى الفقه، شخصيتان. أما الشخصية الأولى التي جعلت منه طالب سنة دءوبًا في طلبها، يجوب لأجلها الأمصار، فهي شخصية هشيم بن بشير الذي لزمه نحو أربع سنوات كما ذكرنا، تكونت له خلالها النواة الأولى لعلمه في الحديث.
أما الشخصية الثانية فهي شخصية الشافعي ﵁ الذي اتصل به الإمام أحمد عقب وفاة هشيم، عندما ذهب يحج بيت الله الحرام، فالتقى به هناك، ⦗٢١⦘ وأثار إعجابه عقله الفقهي وقوة استنباطه، ولقد صرح أحمد ﵁ بذلك وكان يقول فيه: "يروى عن النبي ﷺ أنه قال: إن الله ﷿ يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلًا يقيم لها أمر دينها، فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة". وعلى هذا يعتبر الإمام الشافعي الموجه الثاني لأحمد بن حنبل ﵁ إلى أصول الاستنباط كما وجهه هشيم في صدر حياته إلى الحديث، وطلب السنة.
-٣-دراساته الخاصة:
وإذا كنا قد قصرنا عدد الموجهين للإمام أحمد على اثنين من العلماء، فذلك لأن أحمد ﵁ كان موجهه الأكبر من نفسه، ونزوعها وميولها، والتي نمتها الدراسات الشخصية المختلفة، ونوع الحياة الذي اختاره، واكتفاؤه من المال بالقليل، وعدم اتجاهه إلى مطمح مما تطمح إليه نفوس الرجال، وترنو إليه أنظارهم، فكانت حياته كلها للحديث وفقه السنة.
لقد طلب أحمد ﵁ الحديث والسنة، وكان كلما أوغل في الطلب اشتدت رغبته فيه، كمن يذوق طعامًا فيستطيبه، إذ الرغبة بعد الذوق تشتد، بيد أن نهمة العلم لا تشبعها كثرة، ونهمة الطعام يشبعها القليل، لأنَّ الأولى معنوية، والمعاني لا تتخم، والثنية مادية، وقليل المادة يتخم.
ولقد كان أحمد ﵁ يجهد في دراساته بين الأمصار، وقد ذكرنا كيف كان في صدر حياته كثير الانتقال إلى الأمصار، والجوب في القفار، ومحبرته في رحاله، وهو يقول بلسان الحال: مع المحبرة إلى المقبرة، ولا يمتنع -وهو الكهل الذي يعده الناس إمامًا- على أن يعمل في طلب العلم ما يعمله الشاب الذي يستقبل العلم، وكان يقول وهو الإمام الحجة المقتدى به: "أنا أطلب العلم إلى القبر". ⦗٢٢⦘ وكان قدوته في ذلك سيرة إمامين جليلين لم يلقهما هما سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك. فقد اتخذهما أحمد ﵁ أستاذين له من سيرتهما، ومروياتهما، وكان يتلاقى معهما في أكثر ما اختلط لنفسه من السلوك في هذه الحياة.
-٤- عصره:
كانت حياة الإمام أحمد في العصر الذهبي من الخلافة العباسية؛ حيث نضج فيه كل شيء، وآتي أكله.. فمن الناحية السياسية استقرت الأمور للدولة العباسية استقرارًا تامًا بعد فتنة الأمين والمأمون، فانصرف الخلفاء إلى الجهاد، وصادر للدولة الإسلامية قوة وسلطان وازدهرت الحياة الدينية فيها.
وأما من الناحية الفكرية فقد نضج الفقه، واستقامت طرائقه، والتقى العلماء، وتدارسوا الفقه ودونت المجموعة الفقهية لكل طائفة من المجتهدين، كما ظهر في ذلك العصر الاتجاه إلى وضع الكليات، وضبط أساليب الاستنباط الفقهي، وقد تولى عبء ذلك الإمام الشافعي ﵁.
وقد ضج في عصر الإمام أحمد أيضًا علم الحديث، وتم فيه الجمع بين أحاديث الأقطار المختلفة، وطبيعية ذلك الجمع الإحاطة بالأحاديث الواردة في الأبواب الفقهية المختلفة، ودراستها دراسة مقارنة في إسنادها وفيما يستنبط منها الموازنة بينها من حيث القوة في حال تعارضها، وتعرف الناسخ والمنسوخ، وهكذا.
وإذا كان ذلك العصر هو عصر التقاء الثمرات الفقهية في كل الأمصار، فإن ذلك الالتقاء يصحبه احتكاك فكري بين العلماء، ومن طبيعة هذا الاحتكاك أن تتولد عنه المناظرات التي يقصد بها الوصول إلى الحق في القضايا المتنازعة.
وهكذا جاء الإمام أحمد في ذلك العصر الذي كان يزخر بأنواع المعارف والعلوم، فأخذ منها ما يتفق مع نزوعه ويتلاءم مع مزاجه ومسلكه الذي وجه إليه منذ نشأته الأولى، فاتجه إلى طلب الأحاديث والآثار من ينابيعها والعاكفين على دراستها، كما طلب الفقه من رجاله وممن غلب عليهم، فكان إمامًا في الحديث والفقه.
1 / 20
محنته:
لقد قدر الله لذلك الإمام الجليل أن يمتحن أبلغ المحنة، وأن يكوى جلده بالسياط، وأن يساق مقيدًا مغلولًا يثقله الحديد. لا لشيء إلا إنه رفض أن يخوض في أمر مما كان يخوض فيه المأمون والذين أرضاهم صفوة له من العلماء. جاء في كتاب المقفى للمقريزي أنَّ الإمام الشافعي ﵁ وهو في مصر، رأى النبي ﷺ في المنام فأخبره (أنَّ المحنة ستكون، وأن الإمام أحمد بن حنبل سيمتحن) قال الربيع بن سليمان فكتب الشافعي كتابًا وختمه، ثم قال لي: يا أبا سليمان انحدر بكتابي هذا إلى الإمام أحمد وأعطه له ولا تقرأ، فحملت الكتاب إلى العراق ووجدت الإمام أحمد يصلي سنة الفجر فلما انتهى من الصلاة قدمت له الكتاب فعرفني وقرأه. فلمَّا جاء عند موضع فيه. بكى، قلت له: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال لي: الشافعي يذكر لي أنَّ الرسول الله ﷺ بشره أن سأمتحن!! وأنا أسأل الله ﷾ أن يحقق ذلك قريبًا. قال الربيع: فقلت للإمام: هذه بشرى فأين جائزتي؟ فخلع الإمام أحمد ثوبه الذي يلي جلده وأعطاه لي. فلمَّا رجعت إلى مصر رويت ما حدث للإمام الشافعي فوجدت الشافعي يتمنى لو ظفر بثوب الإمام أحمد. كانت هذه الرؤيا قبل أن تقع المحنة بسنوات، ولقد فعلت في نفس الإمام أحمد فعل السحر كما فعلت الرؤيا أخرى رآها هو بنفسه وحكاها لنا ابن عمه نبل بن إسحاق بن حنبل فقال: "رأيت في المنام صديقًا اسمه علي بن عاصم" واستبشر الإمام بهذه الرؤيا الثانية استبشارًا كبيرًا وقال: إنَّ عليا تفيد علو المنزلة، وعاصمًا تفيد العصمة في الفتنة. ولذلك هش الإمام أحمد وبش لهاتين الرؤيتين العظيمتين واستعد نفسيًا وعقليًا للنزال والنضال. ⦗٢٤⦘ بدأت المحنة سنة ٢١٨-هـ بورود كتاب المأمون، على عامله في بغداد، أن يجمع العلماء من قضاء وخطباء، ويسألهم عن القرآن، فمن لم يقل أنه مخلوق عزله، العلماء وامتثل الوالي أمر الخليفة فجمع العلماء، فأقروا جميعًا إلا أربعة منهم، فلجأ إلى الشدة، وأمر بوضعهم في الحبس وإثقالهم بقيود الحديد، فوافق اثنان، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأمر المأمون بحملهما إليه، فشدهما الوالي في الحديد ووجههما إليه. وتوفي المأمون قبل أن يصلوا إليه، وهو بالرقة، كما توفي ابن نوح على الطريق فبقي أحمد ﵁ وحده، وهكذا اختصرت فيه جبهة المحدثين الضخمة، وانصبت الأضواء كلها عليه، اتجهت الأنظار إليه، وتعلق نصر الجبهة بثباته، فإن هو انهزم انهارت جبهة المحدثين وتمت الغلبة للمعتزلة. وولي المعتصم وكان رجلًا قوي الجسم يستطيع أن يصارع أسدًا، ولكنه كان ضعيف العلم لا يستطيع أن يناظر أحدًا، وكان يجلّ أخاه المأمون ويراه مثله الأعلى فسار على طريقته ولكنه إلا حتى جاوز الحدود. ولبث الإمام أحمد في السجن، وبلغ به الضعف كل مبلغ، ومع ذلك فقد كان دائم العبادة، حاضرًا مع الله. حدث ابنه بأن الإمام أحمد قرا عليه كتاب الإِرجاء وغيره في الحبس، وبأن رآه يصلي بأهل الحبس وعليه لقيد، فكان يخرج رجله من حلقة القيد، وقت الصلاة والنوم. وبعث المعتصم علماءه وقواده يناظرونه، فكان يرفض الدخول في المناظرة ويأبى الموافقة إلا بدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله ﷺ. وحمل إلى حضرة المعتصم. وجرت المناقشة إمامه، فكان يصرَّ على هذا الرد ويقول: "أعطوني شيئًا من كتاب الله أو من سنة رسوله". وجربوا أنواع الترغيب بالعطايا والمناصب، وأنواع الترهيب بالتعذيب الشديد. فلم يؤثر ذلك فيه أثرًا. وبعثوا إليه بالعلماء يأتونه من باب التقية، فكان يقول لهم: "إن من قبلنا كانوا ينشرون بالمنشار فلا يرجعون". وأظهر مرة أنه لا يخاف السجن، ولكن ⦗٢٥⦘ يخاف الضرب، يخشى ألاّ يحتمل فتهزم فكرته. فقال له أحد اللصوص وكان معه في السجن. "أنا ضربت عشرين مرة، يبلغ مجموعها آلاف الأسواط، فاحتملتها في سبيل الدنيا، وأنت تخاف أسواطًا في سبيل الله، إنما هما سوطان أو ثلاثة فلا تحس شيئًا" فهوَّن ذلك عليه. ولما عجز المعتصم نصب آلة التعذيب ومدوه عليها وضربوه، فانخلعت كتفه من الضربة الأولى، وانبثق من ضهره الدم، فقام إليه المعتصم يقول: يا أحمد قل هذه الكلمة وأنا أفك عنك بيدي وأعطيك وأعطيك، وهو يقول: هاتوا آية أو حديثًا. فقال المعتصم للجلاد: شد قطع الله يدك. فضربه أخرى فتناثر لحمه. وقال له المعتصم: لماذا تقتل نفسك مَن مِن أصحابك فعل هذا؟. وقال له أحد العلماء وهو المروزي: ألم يقل الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) . قال أحمد ﵁: يا مروزي فانظر أي شيء وراء الباب فخرج إلى صحن القصر فإذا جمع لا يحصيهم إلا الله معهم الدفاتر والأقلام. قال: أي شيء تعلمون؟ قالوا: ننظر ما يجيب به أحمد فنكتبه. فرجع. قال: يا مروزي أنا أضلّ هؤلاء كلهم؟ أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء كلهم!. ولمَّا عجز المعتصم قال لجلادين: اضربوا وشدوا. فكان يجيء الواحد فيضربه سيوطين، ثم يتنحى ويأتي الآخر، حتى خلعت كتفاه، وغطَّى الدم ظهره كله. ⦗٢٦⦘ وانقطعت تكة سراويله فكادت تسقط وينكشف. ورآه الناس يحرك شفتيه. فتقف السراويل مكانهم وسألوه بعد. فقال: قلت: يا رب إن كنت تعلم أني على الحق فلا تهتك لي سترًا. حتى أشرف على الموت، وخاف المعتصم أن يثور الناس إن مات، فرفع عنه الضرب وسلمه لأهله، بعدما لبث في السجن والقيود ثمانية وعشرين شهرًا. وأرادوا أن يسقوه شيئًا فأبي أن يفطر وهو فيما هو فيه من الهول. ولم يخرج حتى أعلن أنه سامح المعتصم وكل من حضر ضربه، وبقي أثر الضرب فيه وبقيت كتفه مخلوعة حتى مات. على أن المحنة لم ترفع تمامًا إلا أيام المتوكل، وكانت محنة حقًا، دامت نحوًا من أربع عشرة سنة، تراخى عنه العذاب والتنكيل والاضطهاد في نصفها واستمر في سائرها. وخرج الإِمام أحمد من هذه المحنة خروج السيف من الجلاء والبدر من الظلماء، وكان كما قال بعض معاصريه: "أُدخل الكبير فخرج ذهبًا أحمر". ولم يزل بعد ذلك اليوم في صعود واعتلاء، حتى تواضعت القلوب على حبه وأصبح حبه شعار أهل السنة وأهل الصلاح، حتى نقل عن أحمد معاصريه أنه قال: "إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم انه صاحب سنة". وقال شاعر: أضحى ابنُ محنةً مأمونةً * ويجبِّ أحمدَ يُعرفُ المُتَنَسِكُ وإذا رأيت لأحمد مُتنقِّصًا * فاعلم بأنَّ ستورُهُ ستهتكُ وقال علي بن المدني أحد أئمة الحديث في عصره، ومن شيوخ البخاري: "إنَّ الله أعزَّ هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة".
لقد قدر الله لذلك الإمام الجليل أن يمتحن أبلغ المحنة، وأن يكوى جلده بالسياط، وأن يساق مقيدًا مغلولًا يثقله الحديد. لا لشيء إلا إنه رفض أن يخوض في أمر مما كان يخوض فيه المأمون والذين أرضاهم صفوة له من العلماء. جاء في كتاب المقفى للمقريزي أنَّ الإمام الشافعي ﵁ وهو في مصر، رأى النبي ﷺ في المنام فأخبره (أنَّ المحنة ستكون، وأن الإمام أحمد بن حنبل سيمتحن) قال الربيع بن سليمان فكتب الشافعي كتابًا وختمه، ثم قال لي: يا أبا سليمان انحدر بكتابي هذا إلى الإمام أحمد وأعطه له ولا تقرأ، فحملت الكتاب إلى العراق ووجدت الإمام أحمد يصلي سنة الفجر فلما انتهى من الصلاة قدمت له الكتاب فعرفني وقرأه. فلمَّا جاء عند موضع فيه. بكى، قلت له: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال لي: الشافعي يذكر لي أنَّ الرسول الله ﷺ بشره أن سأمتحن!! وأنا أسأل الله ﷾ أن يحقق ذلك قريبًا. قال الربيع: فقلت للإمام: هذه بشرى فأين جائزتي؟ فخلع الإمام أحمد ثوبه الذي يلي جلده وأعطاه لي. فلمَّا رجعت إلى مصر رويت ما حدث للإمام الشافعي فوجدت الشافعي يتمنى لو ظفر بثوب الإمام أحمد. كانت هذه الرؤيا قبل أن تقع المحنة بسنوات، ولقد فعلت في نفس الإمام أحمد فعل السحر كما فعلت الرؤيا أخرى رآها هو بنفسه وحكاها لنا ابن عمه نبل بن إسحاق بن حنبل فقال: "رأيت في المنام صديقًا اسمه علي بن عاصم" واستبشر الإمام بهذه الرؤيا الثانية استبشارًا كبيرًا وقال: إنَّ عليا تفيد علو المنزلة، وعاصمًا تفيد العصمة في الفتنة. ولذلك هش الإمام أحمد وبش لهاتين الرؤيتين العظيمتين واستعد نفسيًا وعقليًا للنزال والنضال. ⦗٢٤⦘ بدأت المحنة سنة ٢١٨-هـ بورود كتاب المأمون، على عامله في بغداد، أن يجمع العلماء من قضاء وخطباء، ويسألهم عن القرآن، فمن لم يقل أنه مخلوق عزله، العلماء وامتثل الوالي أمر الخليفة فجمع العلماء، فأقروا جميعًا إلا أربعة منهم، فلجأ إلى الشدة، وأمر بوضعهم في الحبس وإثقالهم بقيود الحديد، فوافق اثنان، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأمر المأمون بحملهما إليه، فشدهما الوالي في الحديد ووجههما إليه. وتوفي المأمون قبل أن يصلوا إليه، وهو بالرقة، كما توفي ابن نوح على الطريق فبقي أحمد ﵁ وحده، وهكذا اختصرت فيه جبهة المحدثين الضخمة، وانصبت الأضواء كلها عليه، اتجهت الأنظار إليه، وتعلق نصر الجبهة بثباته، فإن هو انهزم انهارت جبهة المحدثين وتمت الغلبة للمعتزلة. وولي المعتصم وكان رجلًا قوي الجسم يستطيع أن يصارع أسدًا، ولكنه كان ضعيف العلم لا يستطيع أن يناظر أحدًا، وكان يجلّ أخاه المأمون ويراه مثله الأعلى فسار على طريقته ولكنه إلا حتى جاوز الحدود. ولبث الإمام أحمد في السجن، وبلغ به الضعف كل مبلغ، ومع ذلك فقد كان دائم العبادة، حاضرًا مع الله. حدث ابنه بأن الإمام أحمد قرا عليه كتاب الإِرجاء وغيره في الحبس، وبأن رآه يصلي بأهل الحبس وعليه لقيد، فكان يخرج رجله من حلقة القيد، وقت الصلاة والنوم. وبعث المعتصم علماءه وقواده يناظرونه، فكان يرفض الدخول في المناظرة ويأبى الموافقة إلا بدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله ﷺ. وحمل إلى حضرة المعتصم. وجرت المناقشة إمامه، فكان يصرَّ على هذا الرد ويقول: "أعطوني شيئًا من كتاب الله أو من سنة رسوله". وجربوا أنواع الترغيب بالعطايا والمناصب، وأنواع الترهيب بالتعذيب الشديد. فلم يؤثر ذلك فيه أثرًا. وبعثوا إليه بالعلماء يأتونه من باب التقية، فكان يقول لهم: "إن من قبلنا كانوا ينشرون بالمنشار فلا يرجعون". وأظهر مرة أنه لا يخاف السجن، ولكن ⦗٢٥⦘ يخاف الضرب، يخشى ألاّ يحتمل فتهزم فكرته. فقال له أحد اللصوص وكان معه في السجن. "أنا ضربت عشرين مرة، يبلغ مجموعها آلاف الأسواط، فاحتملتها في سبيل الدنيا، وأنت تخاف أسواطًا في سبيل الله، إنما هما سوطان أو ثلاثة فلا تحس شيئًا" فهوَّن ذلك عليه. ولما عجز المعتصم نصب آلة التعذيب ومدوه عليها وضربوه، فانخلعت كتفه من الضربة الأولى، وانبثق من ضهره الدم، فقام إليه المعتصم يقول: يا أحمد قل هذه الكلمة وأنا أفك عنك بيدي وأعطيك وأعطيك، وهو يقول: هاتوا آية أو حديثًا. فقال المعتصم للجلاد: شد قطع الله يدك. فضربه أخرى فتناثر لحمه. وقال له المعتصم: لماذا تقتل نفسك مَن مِن أصحابك فعل هذا؟. وقال له أحد العلماء وهو المروزي: ألم يقل الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) . قال أحمد ﵁: يا مروزي فانظر أي شيء وراء الباب فخرج إلى صحن القصر فإذا جمع لا يحصيهم إلا الله معهم الدفاتر والأقلام. قال: أي شيء تعلمون؟ قالوا: ننظر ما يجيب به أحمد فنكتبه. فرجع. قال: يا مروزي أنا أضلّ هؤلاء كلهم؟ أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء كلهم!. ولمَّا عجز المعتصم قال لجلادين: اضربوا وشدوا. فكان يجيء الواحد فيضربه سيوطين، ثم يتنحى ويأتي الآخر، حتى خلعت كتفاه، وغطَّى الدم ظهره كله. ⦗٢٦⦘ وانقطعت تكة سراويله فكادت تسقط وينكشف. ورآه الناس يحرك شفتيه. فتقف السراويل مكانهم وسألوه بعد. فقال: قلت: يا رب إن كنت تعلم أني على الحق فلا تهتك لي سترًا. حتى أشرف على الموت، وخاف المعتصم أن يثور الناس إن مات، فرفع عنه الضرب وسلمه لأهله، بعدما لبث في السجن والقيود ثمانية وعشرين شهرًا. وأرادوا أن يسقوه شيئًا فأبي أن يفطر وهو فيما هو فيه من الهول. ولم يخرج حتى أعلن أنه سامح المعتصم وكل من حضر ضربه، وبقي أثر الضرب فيه وبقيت كتفه مخلوعة حتى مات. على أن المحنة لم ترفع تمامًا إلا أيام المتوكل، وكانت محنة حقًا، دامت نحوًا من أربع عشرة سنة، تراخى عنه العذاب والتنكيل والاضطهاد في نصفها واستمر في سائرها. وخرج الإِمام أحمد من هذه المحنة خروج السيف من الجلاء والبدر من الظلماء، وكان كما قال بعض معاصريه: "أُدخل الكبير فخرج ذهبًا أحمر". ولم يزل بعد ذلك اليوم في صعود واعتلاء، حتى تواضعت القلوب على حبه وأصبح حبه شعار أهل السنة وأهل الصلاح، حتى نقل عن أحمد معاصريه أنه قال: "إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم انه صاحب سنة". وقال شاعر: أضحى ابنُ محنةً مأمونةً * ويجبِّ أحمدَ يُعرفُ المُتَنَسِكُ وإذا رأيت لأحمد مُتنقِّصًا * فاعلم بأنَّ ستورُهُ ستهتكُ وقال علي بن المدني أحد أئمة الحديث في عصره، ومن شيوخ البخاري: "إنَّ الله أعزَّ هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة".
1 / 23
كتبه:
تميز عصره الإمام أحمد بالتدوين والتأليف كما ذكرنا، وقد نهج علماء عصره في التدوين فأخرج لنا كتابه الضخم (المسند) الذي قال فيه الحافظ السيوطي: "وكل ما كان في مسند احمد فهو مقبول فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن". وقد سلك الإمام أحمد في مصنفه مسلكًا يغاير مسالك المصنفين في الحديث على الأبواب مما اعتدناه في كتب الصحاح والسنن، فرتب كتابه على أسماء الصحابة وذكر لكل صحابي أحاديثه مسندة وقد شقت هذه الطريقة على كثير من المحدثين لأنها لا توصل إلى هو المرحوم الشيخ عبد الرحمن البنَّا فرتبه ترتيبًا حسنًا وبوبه توبيبًا جميلًا حسب الموضوعات لا حسب الراوي إلا أنَّ المنية وافته قبل أن يتم عمله، فتابع منهجه الشيخ محمد عبد الوهاب بحيري فأكمل الجزء الثاني والعشرين وبقي من الكتاب ما يقرب من جزأين آخرين. وللإمام أحمد كتب آخرى ذكرها ابن النديم هي: كتاب العلم، كتاب الفرائض، كتاب التفسير، الناسخ والمنسوخ، الزاهد، الإيمان، الأشربة، المسائل، الفضائل، طاعة الرسول، الرد على الجهمية، المناسك. ولم يصلنا منها إلا بعضها. وهناك كتب آخرى لم يذكرها ابن النديم مثل: كتاب الصلاة وكتاب السنة
تلاميذه:
سمع الإمام أحمد كثيرون، منهم من روى الحديث عنه، ومنهم من روى الحديث والفقه، ومنهم من اشهر برواية الفقه ونخص بالذكر منهم كم كان له الفضل في نشر علمه ﵁ وأشهرهم: صالح بن أحمد بن حنبل: وعني بنقل أبيه ومسائله. ⦗٢٨⦘ - عبد الله بن أحمد بن حنبل: اتجهت عنايته إلى رواية حديث أبيه، روى المسند وتممه. قال فيه أبوه: "إبني عبد لله محظوظ من علم الحديث لا يكاد يذاكرني إلا بما لا أحفظ". - أحمد بن محمد بن هانئ أبو بكر الأشرم: روى عن الإمام أحمد مسائل في الفقه، وروى عنه حديثًا كثيرًا. - عبد الملك بن الحميد بن مهران الميموني: صحب الإمام أحمد أكثر من عشرين سنة. ونقل عنه الكثير، وما يتميز به أنه كان يكتب عن أحمد ﵁، فهو على هذا من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا فقهه إلى الأجيال، والذين كان لروايتهم مكان من الاعتبار. أحمد بن محمد الحجاج أبو بكر المروزي: كان أخصُّ أصحاب الإمام أحمد وأقربهم إليه، وأدناهم منه، وروى عنه كتاب الورع كما روى عنه فقهًا كثيرًا. - إبراهيم بن إسحاق الحربي: وهو من نقله فقه الإمام أحمد أيضًا، وقد وصفه ابن أبي يعلي بقوله: "كان إمامًا في العلم، رأسًا في الزهد، عارفًا بالفقه بصيرًا بالأحكام، حافظًا للحديث ... " وهؤلاء هم العلية من أصحاب أحمد ﵁ الذين كانوا من نقلة فقهه، ثم حصلت الرواية عن الإمام أحمد في طبقته أخرى منهم: - أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال: وهو يعد جامع الفقه الحنبلي، وناقله، ومن أكبر علماء المذاهب. صنف مذهب الإمام أحمد في كتابه (الجامع) الذي يقع في نحو عشرين مجلدًا. وهناك اثنان لهما الفضل في تلخيص ما جمعه الخلال، والزيادة عليه في القليل النادر وهما: - عمر بن الحسين أبو القاسم الخرقي: له كتاب (المختصر)، وهو أشهر كتاب في الفقه الحنبلي، ويعتبر أصلًا محترمًا في أصول هذا الفقه، لذا توافر عليه ⦗٢٩⦘ العلماء في الشرح والتعليق، ولعل أعظم شروحه وأوفاها شرح (المغنى) لموفق الدين المقدسي. - عبد العزيز بن جعفر المعروف بغلام الخلال: وهو يعد أشد تلاميذ الخلال اتباعه له، ونقلًا عنه، إلا أن فقهه لم يكن مقصورًا على النقل الحنبلي، بل وازن بين الفقه الحنبلي والفقه الشافعي، وسجَّل ذلك في كتاب سمَّاه (خلاف الشافعي) .
تميز عصره الإمام أحمد بالتدوين والتأليف كما ذكرنا، وقد نهج علماء عصره في التدوين فأخرج لنا كتابه الضخم (المسند) الذي قال فيه الحافظ السيوطي: "وكل ما كان في مسند احمد فهو مقبول فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن". وقد سلك الإمام أحمد في مصنفه مسلكًا يغاير مسالك المصنفين في الحديث على الأبواب مما اعتدناه في كتب الصحاح والسنن، فرتب كتابه على أسماء الصحابة وذكر لكل صحابي أحاديثه مسندة وقد شقت هذه الطريقة على كثير من المحدثين لأنها لا توصل إلى هو المرحوم الشيخ عبد الرحمن البنَّا فرتبه ترتيبًا حسنًا وبوبه توبيبًا جميلًا حسب الموضوعات لا حسب الراوي إلا أنَّ المنية وافته قبل أن يتم عمله، فتابع منهجه الشيخ محمد عبد الوهاب بحيري فأكمل الجزء الثاني والعشرين وبقي من الكتاب ما يقرب من جزأين آخرين. وللإمام أحمد كتب آخرى ذكرها ابن النديم هي: كتاب العلم، كتاب الفرائض، كتاب التفسير، الناسخ والمنسوخ، الزاهد، الإيمان، الأشربة، المسائل، الفضائل، طاعة الرسول، الرد على الجهمية، المناسك. ولم يصلنا منها إلا بعضها. وهناك كتب آخرى لم يذكرها ابن النديم مثل: كتاب الصلاة وكتاب السنة
تلاميذه:
سمع الإمام أحمد كثيرون، منهم من روى الحديث عنه، ومنهم من روى الحديث والفقه، ومنهم من اشهر برواية الفقه ونخص بالذكر منهم كم كان له الفضل في نشر علمه ﵁ وأشهرهم: صالح بن أحمد بن حنبل: وعني بنقل أبيه ومسائله. ⦗٢٨⦘ - عبد الله بن أحمد بن حنبل: اتجهت عنايته إلى رواية حديث أبيه، روى المسند وتممه. قال فيه أبوه: "إبني عبد لله محظوظ من علم الحديث لا يكاد يذاكرني إلا بما لا أحفظ". - أحمد بن محمد بن هانئ أبو بكر الأشرم: روى عن الإمام أحمد مسائل في الفقه، وروى عنه حديثًا كثيرًا. - عبد الملك بن الحميد بن مهران الميموني: صحب الإمام أحمد أكثر من عشرين سنة. ونقل عنه الكثير، وما يتميز به أنه كان يكتب عن أحمد ﵁، فهو على هذا من أصحاب الإمام أحمد الذين نقلوا فقهه إلى الأجيال، والذين كان لروايتهم مكان من الاعتبار. أحمد بن محمد الحجاج أبو بكر المروزي: كان أخصُّ أصحاب الإمام أحمد وأقربهم إليه، وأدناهم منه، وروى عنه كتاب الورع كما روى عنه فقهًا كثيرًا. - إبراهيم بن إسحاق الحربي: وهو من نقله فقه الإمام أحمد أيضًا، وقد وصفه ابن أبي يعلي بقوله: "كان إمامًا في العلم، رأسًا في الزهد، عارفًا بالفقه بصيرًا بالأحكام، حافظًا للحديث ... " وهؤلاء هم العلية من أصحاب أحمد ﵁ الذين كانوا من نقلة فقهه، ثم حصلت الرواية عن الإمام أحمد في طبقته أخرى منهم: - أحمد بن محمد بن هارون أبو بكر الخلال: وهو يعد جامع الفقه الحنبلي، وناقله، ومن أكبر علماء المذاهب. صنف مذهب الإمام أحمد في كتابه (الجامع) الذي يقع في نحو عشرين مجلدًا. وهناك اثنان لهما الفضل في تلخيص ما جمعه الخلال، والزيادة عليه في القليل النادر وهما: - عمر بن الحسين أبو القاسم الخرقي: له كتاب (المختصر)، وهو أشهر كتاب في الفقه الحنبلي، ويعتبر أصلًا محترمًا في أصول هذا الفقه، لذا توافر عليه ⦗٢٩⦘ العلماء في الشرح والتعليق، ولعل أعظم شروحه وأوفاها شرح (المغنى) لموفق الدين المقدسي. - عبد العزيز بن جعفر المعروف بغلام الخلال: وهو يعد أشد تلاميذ الخلال اتباعه له، ونقلًا عنه، إلا أن فقهه لم يكن مقصورًا على النقل الحنبلي، بل وازن بين الفقه الحنبلي والفقه الشافعي، وسجَّل ذلك في كتاب سمَّاه (خلاف الشافعي) .
1 / 27
أولاده:
وهم تسعة: أكبرهم صالح والباقي هم: عبد الله وحسن ومحمد وسعيد، وبنتان هما: زينب وفاطمة، وتوأمان ماتا بعيد ولادتهما. ولقد ربَّى أحمد ﵁ أولاده وأسرته على المنهاج الذي أحبه، ولما خالفه أولاده وضاقوا بشدة الشظف وطول الحرمان قال لهم: سدوا ما بيني وبينكم!. مرضه ووفاته: قال المروزي: "مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول، ومرض تسعة أيام، وكان ربما أذن للناس فيدخلوا عليه أفواجًا، يسلمون عليه ويرد عليهم بيده ... وكان يصلي قاعدًا، ويصلي وهو مضطجع، لا يكاد يفتر، ويرفع يديه في إيماء الركوع وأدخلت الطست تحته، فرأيت بوله دمًا عبيطًا ليس فيه بول، فقلت للطبيب، فقال: هذا الرجل قد فتت الحزن والغم جوفه، واشتدت علته يوم الخميس، ووضأته فقال: خلل الأصابع، فلمَّا كانت ليلة الجمعة ثقل، وقبض صدر النهار فصاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء، حتى كأن الدنيا قد ارتجت وامتلأت السكك والشوارع". قال المروزي: "أخرجت الجنازة بعد منصرف الناس من الجمعة، قال عبد الوهاب الوثاق: ما بلغنا أن جمعًا في الجاهلية والإسلام مثله، حتى بلغنا أن موضع مسح وحرز على الصحيح، فإذا هو نحو من ألف ألف، وحزرنا على القبور نحوًا من ⦗٣٠⦘ ستين ألف امرأة، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب ينادون من أراد الوضوء". وبهذا الاحتشاد العظيم في جنازته تحقق ما أنبأ به بقوله: "قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز". وكانت وفاته سنة ٢٤١-هـ رحمه الله تعالى.
وهم تسعة: أكبرهم صالح والباقي هم: عبد الله وحسن ومحمد وسعيد، وبنتان هما: زينب وفاطمة، وتوأمان ماتا بعيد ولادتهما. ولقد ربَّى أحمد ﵁ أولاده وأسرته على المنهاج الذي أحبه، ولما خالفه أولاده وضاقوا بشدة الشظف وطول الحرمان قال لهم: سدوا ما بيني وبينكم!. مرضه ووفاته: قال المروزي: "مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول، ومرض تسعة أيام، وكان ربما أذن للناس فيدخلوا عليه أفواجًا، يسلمون عليه ويرد عليهم بيده ... وكان يصلي قاعدًا، ويصلي وهو مضطجع، لا يكاد يفتر، ويرفع يديه في إيماء الركوع وأدخلت الطست تحته، فرأيت بوله دمًا عبيطًا ليس فيه بول، فقلت للطبيب، فقال: هذا الرجل قد فتت الحزن والغم جوفه، واشتدت علته يوم الخميس، ووضأته فقال: خلل الأصابع، فلمَّا كانت ليلة الجمعة ثقل، وقبض صدر النهار فصاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء، حتى كأن الدنيا قد ارتجت وامتلأت السكك والشوارع". قال المروزي: "أخرجت الجنازة بعد منصرف الناس من الجمعة، قال عبد الوهاب الوثاق: ما بلغنا أن جمعًا في الجاهلية والإسلام مثله، حتى بلغنا أن موضع مسح وحرز على الصحيح، فإذا هو نحو من ألف ألف، وحزرنا على القبور نحوًا من ⦗٣٠⦘ ستين ألف امرأة، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب ينادون من أراد الوضوء". وبهذا الاحتشاد العظيم في جنازته تحقق ما أنبأ به بقوله: "قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز". وكانت وفاته سنة ٢٤١-هـ رحمه الله تعالى.
1 / 29
متن الكتاب
تعريف الفقه
الفقه لغة: الفهم. عرفًا: لقد عرفه الفقهاء بتعريفات متقاربة منها: -١- العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلي بالاستدلال (١) . -٢- العلم بالأحكام الأفعال الشرعية كالحل والحرمة والصحة والفساد ونحوها، فلا يطلق اسم الفقيه على متكلم ولا محدث ولا مفسر ولا نحوي (٢) . أراد بالأحكام: كل ما يصدره الشارع للناس من أوامر عملية تنظيم حياتهم فيما بينهم وتحدد نتائج أعمالهم. وقيد بالأفعال: ليخرج المسائل الاعتقادية من أصول الإيمان وفروعه فموضوعها علم التوحيد. وأراد بالشرعية: ما يستفاد من أمر الشارع صراحة أو بواسطة استنباط الفقهاء المجتهدين من دلائل نصوص القرآن والسنة النبوية وقواعد الشرعية ومقاصدها. ومعنى هذا أن موضوع الفقه يشمل الأحكام المتعلقة بالعبادات والأحكام المتعلقة بالمعاملات ما كان منها متعلقًا بالأسرة من زواج وطلاق وما كان متعلقًا بحياة الناس وتعاملهم بعضهم مع بعض أو بينهم وبين الحاكم وكذلك ما يتعلق بعقوبات المجرمين وهي ما يطلق عليه اسم الحدود والتعزيرات. ⦗٣٢⦘ _________ (١) من كتاب المدخل إلى مذهب الإمام أحمد العلامة عبد القادر بدران. (٢) من كتاب روضة الناظر للإمام موفق الدين بن قدامة.
تعريف الفقه
الفقه لغة: الفهم. عرفًا: لقد عرفه الفقهاء بتعريفات متقاربة منها: -١- العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلي بالاستدلال (١) . -٢- العلم بالأحكام الأفعال الشرعية كالحل والحرمة والصحة والفساد ونحوها، فلا يطلق اسم الفقيه على متكلم ولا محدث ولا مفسر ولا نحوي (٢) . أراد بالأحكام: كل ما يصدره الشارع للناس من أوامر عملية تنظيم حياتهم فيما بينهم وتحدد نتائج أعمالهم. وقيد بالأفعال: ليخرج المسائل الاعتقادية من أصول الإيمان وفروعه فموضوعها علم التوحيد. وأراد بالشرعية: ما يستفاد من أمر الشارع صراحة أو بواسطة استنباط الفقهاء المجتهدين من دلائل نصوص القرآن والسنة النبوية وقواعد الشرعية ومقاصدها. ومعنى هذا أن موضوع الفقه يشمل الأحكام المتعلقة بالعبادات والأحكام المتعلقة بالمعاملات ما كان منها متعلقًا بالأسرة من زواج وطلاق وما كان متعلقًا بحياة الناس وتعاملهم بعضهم مع بعض أو بينهم وبين الحاكم وكذلك ما يتعلق بعقوبات المجرمين وهي ما يطلق عليه اسم الحدود والتعزيرات. ⦗٣٢⦘ _________ (١) من كتاب المدخل إلى مذهب الإمام أحمد العلامة عبد القادر بدران. (٢) من كتاب روضة الناظر للإمام موفق الدين بن قدامة.
1 / 31
كتاب الطهارة
1 / 32
الباب الأول (تعريف الطهارة)
الطهارة لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار سواء كانت حسية أو معنوية. شرعًا: رفع الحدث (أي زوال الوصف الحاصل بالبدن والمانع من الصلاة والطواف ومس المصحف) أو زوال الخبث (أي إزالة النجاسة الطارئة على محل طاهر إما بفعل الفاعل كالغسل أو زال بنفسه كانقلاب الخمر خلًا) أو رفع حكم الحدث أو حكم الخبث (كالتيمم عن حدث أو خبث) وهو المنع من الصلاة. دليلها: قوله تعالى: ﴿إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين﴾ (١) . أقسام الطهارة: الطهارة قسمان: آ - الطهارة من الحدث. ب - طهارة من الخبث. أما الحدث فهو عبارة عن صفة حكمية قائمة بجميع البدن أو ببعض أعضائه. والطهارة منه معناها رفع هذا الوصف. والخبث: هو العين المستقذرة شرعًا. والطهارة منه معناها النظافة من النجاسة التي أصابت الأعيان الطاهرة. ⦗٣٦⦘ _________ (١) البقرة: ٢٢٢.
الطهارة لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار سواء كانت حسية أو معنوية. شرعًا: رفع الحدث (أي زوال الوصف الحاصل بالبدن والمانع من الصلاة والطواف ومس المصحف) أو زوال الخبث (أي إزالة النجاسة الطارئة على محل طاهر إما بفعل الفاعل كالغسل أو زال بنفسه كانقلاب الخمر خلًا) أو رفع حكم الحدث أو حكم الخبث (كالتيمم عن حدث أو خبث) وهو المنع من الصلاة. دليلها: قوله تعالى: ﴿إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين﴾ (١) . أقسام الطهارة: الطهارة قسمان: آ - الطهارة من الحدث. ب - طهارة من الخبث. أما الحدث فهو عبارة عن صفة حكمية قائمة بجميع البدن أو ببعض أعضائه. والطهارة منه معناها رفع هذا الوصف. والخبث: هو العين المستقذرة شرعًا. والطهارة منه معناها النظافة من النجاسة التي أصابت الأعيان الطاهرة. ⦗٣٦⦘ _________ (١) البقرة: ٢٢٢.
1 / 35
المياه
أقسامها:
أولًا: الماء الطهور (الطاهر المطهِّر)
تعريفه: هو الطاهر بنفسه المطهر لغيره وإذا تنجس لا يطهره غيره من المائعات. وهو كل ما نزل من السماء أو نبع من الأرض سواء كان عذبًا أو مالحًا أو باردًا أو ساخنًا، ولم تتغير أحد أوصافه الثلاثة: اللون أو الطعم أو الريح بشيء من الأشياء بحيث يقيد به بل باقٍ على خلقته التي خلق عليها، ولم يكن مستعملًا بفرض الطهارة.
دليله: قوله تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) (١) وحديث أبو هريرة ﵁ عن النبي ﷺ وفيه: (اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد) (٢) .
وعن أبي هريرة ﵁ قال: سأل رجل رسول الله صلى عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله صلى عليه وسلم (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) (٣) .
وعن أبي سعيد الخدري ﵁ أنه قيل لرسول الله صلى عليه وسلم أنتوضأ من بئر بضاعة؟ - وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن فقال رسول الله ﷺ: (الماء طهور لا ينجسه شيء) (٤) . ⦗٣٧⦘
_________
(١) الأنفال: ١١.
(٢) البخاري: ج-١ / كتاب صفة الصلاة باب ٩/ -٧١١.
(٣) الترمذي: ج ١/ الطهارة باب ٥٢/ -٦٩.
(٤) أبو داود: ج-١ /كتاب الطهارة باب ٣٤/٦٦.
1 / 36
أنواعه وحكم استعماله:
آ- مباح الاستعمال كماء البحر والآبار والأنهار والعيون وهو:
-١ً- يرفع الأصغر والأكبر. إلا الطهور القليل الباقي بعد خلوة الأنثى المكلفة (بالغة عاقلة) به ولو كانت كافرة دون أن يراها مميز (سواء كان ذكرًا أم أنثى حرًا أم عبدًا) لطهارة كاملة (أي لم يرها حتى انتهت من طهارتها كاملة) فإنه لا يرفع حدث الذكر البالغ ولا الخنثى والعلة بذلك تعبدية. إلا أنه يزيل خبث الرجب والخنثى ويرفع حدث أنثى أخرى. (أما التراب الذي تختلي به الأنثى المكلفة لا يضر) .
-٢ً- تزال النجاسة به.
-٣ً- يجوز استعماله في العادات للنظافة من الأوساخ وللشرب وللطبخ ولسقي الزرع ... إلخ.
ب- مكروه الاستعمال: في الحدث والخبث والعادات إذا وجُد غيره وإلا فلا كراهة في استعماله وهو:
-١ً- ماء بئر في مقبرة.
-٢ً- ماء بئر في أرض مغصوبة، أو ماء بئر حفر غصبًا كأن أرغم الناس على حفر البئر مجانًا، أو حفرت البئر بأجرة مغصوبة.
-٣ً- الماء الشديد السخونة أو الشديد البرودة شدة لا تضر بالبدن.
-٤ً- الماء الذي سخن بمغصوب.
-٥ً- الماء المستعمل في طهارة مسنونة كتجديد وضوء، أو الغسلة الثانية أو الثالثة، أو غسل الجمعة لأنه لم يرفع حدث ولم يزل خبث. وعن الإمام أحمد: أنه غير مطهر لأنه استعمل في طهارة شرعية. ⦗٣٨⦘
-٦ً- الماء الذي يغلب على الظن تنجسه كالماء المستعمل في غسل كافر لأنه لم يرفع حدث ولم يزل خبث، وكذا الماء المستعمل في غسل ذمية من حيض أو نفاس لحل وطئها.
-٧ً- الماء الذي تغير طعمه بملح مائي (أما ما تغير طعمه بملح معدني فتُسلب طهوريته) .
-٨ً- ماء زمزم إن استعمل في إزالة خبت تشريفًا له.
-٩ً- الماء المسخن بنجاسة ولو بُرد.
-١٠ً- الماء المتغير بمجاورة مالا يختلط به كالدهن والكافور والعود.
حـ- محرم الاستعمال: وهو:
-١ً- الماء الطهور المسروق أو المنهوب (أخذ أمام صاحبه غصبًا): فإنه لا يرفع حدثًا إذا كان المتطهر ذاكرًا إلا أنه يزيل خبثًا. أما إذا وضع ماء في آنية مغصوبة أو مسروقة فإن الطهارة تصح به إلا أن استعمال الآنية محرم.
-٢ً- الماء المسبل للشرب فقط: يحرم استعماله إلا أن الطهارة به تصح.
-٣ً- الماء الذي يُحتاج له لدفع عطش حيوان لا يجوز إتلافه شرعًا: يحرم استعماله إلا أن الطهارة به صحيحة.
أشياء لا تسلب الماء الطهور طهوريته ولا تجعله مكروه الاستعمال وهي:
-١ً- الماء المتغير بسبب ما في مقره أو ممره من أملاح ومعادن وأشياء أخرى كماء البحر والآبار والعيون والأنهار.
-٢ً- الماء المتغير بسبب التحلب وورق الشجر ما لم يوضعا عمدًا من قبل بالغ عاقل فعندها تسلب طهوريته.
-٣ً- الماء المسخن بالشمس على أي حال ولو في غناء منطبع في قطر حار. ⦗٣٩⦘
-٤ً- الماء المتغير بطول مكث أو بالريح من نحو ميتة مجاورة.
-٥ً- الماء المتغير بسمك وجراد أو حيوان لا دم سائل له إن لم يكن من كنف ونحوها لمشقة الاحتراز منه سواء مات الحيوان أو بقي حيًا.
-٦ً- إذا خالط الماء ما يوافقه في الطهورية كالتراب وما كالملح المائي المنعقد بالماء.
ثانيًا: الماء الطاهر غير المطهر
تعريفه: هو الماء المستعمل غير المتنجس.
حكمه: لا يرفع حدثًا ولا يزيل خبثًا إلا أنه يستعمل في العادات (طبخ، شرب، تنظيف) .
أنواعه:
-١ً- الطهور الذي خالطه شيء من الطاهرات التي لا يعسر الاحتراز منها، وغيرت أحد أوصافه الثلاثة اللون أو الطعم أو الريح تغيرًا فاحشًا بحيث خرج عن اسم الماء وقيد بالطهر المخالط له، أو غيرت صفتين أو ثلاث صفات تغيرًا يسيررًا، أما إذا غيرت صفة واحدة تغيرًا يسيرًا فلا يضر لما روي عن عطاء بن يسار قال: (حدثتني أم هانئ أنها دخلت على النبي ﷺ يوم فتح مكة وهو يغتسل قد سَتَرتْهُ بثوب دونه في قصعة فيها أثر العجين قالت: فصلى الضحى فما أدري كم صلى حين قضى غُسْله) (١) . وإذا زال التغير من نفسه عاد الماء إلى طهوريته. وإن كان مع المكلف ماء يكفيه لطهارته أو لا فزاده مائعًا لم يغيره صحت طهارته به.
-٢ً- الماء القليل (دون القلتين) المستعمل في رفع الحدث فهو طاهر غير مطهر. أما أنه طاهر فلحديث جابر ﵁ قال: (مرضت مرضًا، فأتاني ⦗٤٠⦘ النبي ﷺ يعودني، وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجداني أُغمي علي، فتوضأ النبي ﷺ ثم صب وضوءه عليَّ فأفقت..) (٢) . ولأنه ماء طاهر لم تصبه نجاسة، وأما أنه غير مطهر فلأنه أزال مانعًا من الصلاة.
-٣ً- الماء القليل المستعمل في إزالة الخبث إن انفصل غير متغيرٍ بعد إزالة النجاسة. ومن قال بوجوب العدد في الغسلات (قيل سبعًا وقيل ثلاثًا) فالماء المنفصل عن الثوب المتنجس قبل الغسلة الأخيرة نجس، أما المنفصل في الثوب طاهر أيضًا. وإن انفصل الماء عن الأرض المتنجسة غير متغير بعد زوال النجاسة فهو طاهر (٣)
-٤ً- الماء الطهور القليل الذي انغمست فيه كل يد المسلم، المكلف، النائم ليلًا نومًا ينقص الوضوء قبل غسلها ثلاثًا، غسل اليدين بعد النوم ثلاثًا واجب للمسلم بشرط النية، والبسملة في المرة الأولى ولو باتت اليدان مكتوفين أو في جراب، وقد أسقط ماء غسل اليدين هذا الواجب فهو طاهر غير مطهر فإذا لم تغمس اليد كلها بل رؤوس الأصابع لا يضر إلا إذا كان ينوي بالغمس غسلها، وأما حصول ذلك مع نوم النهار والنوم مكنًا مقعدته من الأرض فلا يضر، وكذا غمس الكافر يده بالماء القليل لا يضر لأنه لا يخاطب بفروع الشريعة، ولا يترتب عليه ما هو واجب للمسلم.
مسألة: إذا تغمس المحدث في ماء يسير ناويًا رفع حدثه صار الماء مستعملًا ولم يرفع حدثه لما روى أبو هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه" (٤) وفي رواية أخرى عن: "لا يغتسل أحدكم في ⦗٤١⦘ الماء الدائم وهو جنب" (٥) . والنهي يقتضي فساد المنهي عنه لأنه بأول جزء انفصل منه صار مستعملًا فلم يرفع حدث سائر الجسد.
_________
(١) النسائي: ج-١ /ص ٢٠٢.
(٢) البخاري: ج-٥/ كتاب المرضى باب ٥/٥٣٢٧.
(٣) هناك قاعدة: "إذا كان الماء واردًا على النجاسة فالحكم له، وإن كان مورودًا فالحكم لها" أي إذا صببنا ماء على الأرض المتنجسة تطهر الأرض والماء المنفصل طاهر إن لم يتغير بها. أما إذا مكان الماء موجودًا في إناء وقعت فيه نجاسة فتنجسه.
(٤) مسلم: ج-١ / كتاب الطهارة باب ٢٨/٩٥.
(٥) مسلم: ج-١ / كتاب الطهارة باب ٢٩/٩٧.
1 / 37
ثالثًا: الماء المتنجس:
تعريفه: هو الماء الذي خالطته نجاسة وكان قليلًا.
حكمه: لا يرفع حدثًا ولا يزيل خبثًا ويحرم استعماله في العادات إلا للضرورة كدفع لقمة غص بها ولا يوجد غيره. ويمكن استعمال الماء النجس في بل التراب أو الجبس أو نحوه وجعله عجينًا بشرط أن لا يبني به مسجدًا أو مصطبة يصلى عليها وكذلك لا يحل بالانتفاع بأي مائع نجس كالخمر والدم.
كيف ينجس الماء؟
-١ً- الماء القليل: يتنجس إذا وقعت فيه نجاسة ولو لم تتغير صفة من صفاته ولو كانت النجاسة مما لا يدركه الطرف أو كانت جامدة لا تسري فيه لما روى أبو هريرة ﵁ قال: قال النبي ﷺ: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب إن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" (١) فدل على نجاسته من غير تغير صفة من صفاته. ولما رواه ابن عمر ﵄ عن رسول الله ﷺ: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث (٢) يدل على ما كان دون القلتين ينجس.
-٢ً- الماء الكثير: وهو ما كان قلتين (٣) فأكثر، والقلة عبارة عن قربة من قرب الحجاز الكبيرة تسع مائة رطل، وقدرت القلتان تقريبًا بسعة عشر تنكات. ⦗٤٢⦘
فإذا كان الماء عشر تنكات فأكثر لا ينجس إذا سقطت فيه نجاسة ما لم تُغير أحد أوصافه الثلاثة ولو تغيرًا يسيرًا بدليل الحديث المتقدم عن ابن عمر ﵄: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) (٤) وما روى أبو سعيد الخدري ﵁ قال: (قيل لرسول الله ﷺ أنتوضأ من بئر بضاعة؟ - وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن فقال رسول الله ﷺ: الماء طهور لا ينجسه شيء) (٥) . قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي فوجدتها ستة أذرع. وجميع النجاسات سواء إلا بول الآدمي وعذرته المائعة فإن أكثر الروايات عن الإمام أحمد أنها تنجس الماء الكثير لحديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه" (٦) إلا إن بلغ حدًا لا يمكن نزحه بحديث القلتين فيصبح البول كسائر النجاسات.
وإذا وقعت نجاسة في ماء كثير فغيرت بعضه، فالمتغير نجس، أما الذي لم يتغير فهو طاهر إن بلغ قلتين لأنه ماء كثير، فإن كان دون القلتين فهو نجس لأنه ماء قليل لاقى ماء نجسًا. وإذا كان بين غديرين ساقية فيها ماء يتصل بهما فهما ماء واحد.
-٣ً- الماء الجاري: إذا تغير بعض جريانه بالنجاسة، فالجرية نجسة، وما قبلها وما بعدها طاهر. أما إن لم يتغير منه شيء فلا ينجس، لأنه ماء كثير يتصل بعضه ببعض. وقال بعض المتأخرين: حكم الجرية كحكم مائها، وإن كان قليلًا ينجس بوقوع النجاسة فيه ولو كانت جامدة ولم تغيره، أما إن كان كثيرًا فلا ينجس بمروره على النجاسة إذا لم يتغير ⦗٤٣⦘.
-٤ً- ماء البئر: إن كان قليلًا ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه، أو سقوط حيوان له دم سائل ومات فيه سواء وقع من نفسه أو أوقعه أحد، أما إن كان كثيرًا فلا ينجس إذا وقعت فيه النجاسة أو سقط فيه حيوان ومات ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة.
_________
(١) مسلم: ج-١ / كتاب الطهارة باب ٢٧/٩١.
(٢) الترمذي: ج-١ / كتاب الطهارة باب ٥٠/٦٧.
(٣) مساحة القلتين مربعًا: ذراع وربع طولًا وعرضًا وعمقًا أي مكعب طول ضلعه ٦٠ سم تقريبًا.
ومساحة القلتين مدورًا: ذراع طولًا وذراعان ونصف عمقًا أي اسطوانة قطرها ٤٨ سم وارتفاعها ١٢٠ سم.
(٤) الترمذي: ج-١ / الطهارة باب ٥٠/٦٧.
(٥) أبو داود: ج-١ / كتاب الطهارة باب ٣٤/٦٦.
(٦) مسلم: ج-١ / كتاب الطهارة باب ٢٨/٩٥.
1 / 41
حالة الشك في الماء من أي قسم هو والتحري فيه:
-١ً- إذا وجد ماء وشك في نجاسته نقول إنه طاهر سواء كان متغيرًا أم لا، لأن الأصل في الأشياء الطهارة ويحتمل أن يكون تغيره من مكثه.
-٢ً- إن تيقن نجاسة الماء وشك في طهارته فهو نجس لأن الأصل نجاسته.
-٣ً- إن علم وقوع النجاسة في الماء ثم وجده متغيرًا تغيرًا يجوز أن يكون بسببها فهو نجس.
-٤ً- إن أخبره ثقة بنجاسة الماء فلا يقبل حتى يبين له السبب، فإن عين له السبب لزمه القبول.
كيف يطهر الماء المتنجس؟
أولًا: الماء القليل المتنجس: يطهر بمكاثرته بقلتين طاهرتين، إما إن ينبع فيه، أو يصب عليه، وسواء كان متغيرًا فزال تغيره، أو كان غير متغير باقيًا على حاله.
ولا يطهر بزوال التغير بنفسه كأن يترك الماء القليل المتنجس حتى يعود من فسه إلى حالته الأولى، لأن العلة مخالطة النجاسة لا التغيير.
ثانيًا: الماء المتنجس قلتين فقط: إما بإضافة قلتين طاهريتن، أو بزوال تغيره بالمكث. ⦗٤٤⦘
ثالثًا: الماء الكثير المتنجس: يطهر بإحدى الطرق الثلاث:
-١- إما بإضافة قلتين طاهرتين.
-٢- أو بزوال التغير بالمكث.
-٣- أو بنزح منه والباقي بعد النزح قلتين فأكثر.
أما إذا كان كوثر الماء المتنجس بأقل من قلتين، أو طرح فيه تراب، أو وضع فيه ساتر كمسك لإزالة التغير، فإنه لا يطهر.
كيف تعود الطهورية للماء المستعمل:
-١- إذا اجتمع ماء مستعمل مع ماء طهور يبلغ قلتين فالكل طاهر مطهر.
-٢- إذا اجتمع ماء مستعمل مع ماء طهور أقل من قلتين وكان المستعمل يسيرًا عفي عنه، لأنه لو اجتمع ماء طهور دون قلتين مع مائع آخر طاهر لم يغلب على أكثر الماء بقي الماء طاهرًا مطهرًا، فمن باب أولى إذا كان هذا المائع هو مائع مستعمل. ⦗٤٥⦘
حكم سؤر الحيوان
أولًا: طاهر:
-١- سؤر الآدمي سواء كان متطهرًا أم محدثًا، لما روى أبو هريرة ﵁ (أنه لقيه النبي ﷺ في طريق من طرق المدينة وهو جنبٌ. فانسلَّ فذهب فاغتسل. فتفقده النبي ﷺ. فلما جاءه قال: أين كنت؟ يا أبا هريرة. قال: يا رسول الله لقيتني وأنا جنب. فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل. فقال رسول الله ﷺ: سبحان الله: إن المؤمن لا يَنْجُس) (١) . وعن عائشة ﵂ قالت: (كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي ﷺ. فيضع فاه على موضع فيَّ. فيشرب. وأتعرق العرق (٢) وأنا حائض. ثم أُناوله النبي ﷺ فيضع فاه على موضع فيَّ) (٣) .
-٢- سؤر ما يؤكل لحمه من الحيوانات.
-٣- سؤر ما لا يمكن التحرز منه وهو السنور (الهر) وما دونه في الخلقة، لما روت كبشة بنت كعب بن مالك ﵂ قالت: أن أبا قتادة دخل عليها، قالت: فسكبت له وضوءًا، قالت: فجاءت هرة تشرب، فأصغى (٤) لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا بنت أخي؟ قالت: فقلت: نعم، قال: إن رسول الله ﷺ قال: (إنها ليست بنجسٍ، وإنما هي من الطوافين عليكم والطوافات) (٥) . فدل الحديث بمنطوقه على طهارة ⦗٤٦⦘ الهرة، وتعليله طهارة ما دونها لكونه مما يطوف علينا ولا يمكن التحرز منه كالفأرة ونحوها.
_________
(١) مسلم: ج-١ / كتاب الحيض باب ٢٩.
(٢) هو العظم الذي عليه بقية من لحم. ويقال عرقت العظم إذا أخذت منه اللحم بأسنانك.
(٣) مسلم: ج-١/ كتاب الحيض باب ٣/١٤.
(٤) أصغى: أمال.
(٥) الترمذي: ج-١/الطهارة باب ٦٩/٩٢.
1 / 43
ثانيًا: نجس:
-١- سؤر الكلب والخنزير وجميع أجزائهما وما تولد منهما، لحديث أبي هريرة ﵁ قال: قال النبي ﷺ، (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب فيه أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) (١) . والخنزير شر منه لأنه منصوص على تحريمه.
-٢- كل ما تولد من النجاسة كدود الكنف والصراصير.
_________
(١) مسلم: ج-١ / كتاب الطهارة باب ٢٧/٩١.
ثالثًا: مختلف فيه: -١- سائر سباع البهائم والطير فيها روايتان: إحداهما نجس، بدليل أن النبي ﷺ سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) (١) فمفهوم الحديث أنه ينجس إذا لم يبلغهما، ولأنه يمكن التحرز منه. والثانية: طاهر بدليل ما روى أبو سعيد الخدري ﵁ أن النبي ﷺ سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة. تردها السباع والكلاب والحُمُر. وعن الطهارة منها؟ فقال: لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر (٢) طهور) (٣) . -٢- الحمار الأهلي والبغل فيهما روايتان: إحداهما: نجس لحديث ابن عمر ﵄ قال: (نهى النبي ﷺ عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر) (٤)، وفي رواية عن أنس ﵁ (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها ⦗٤٧⦘ رجس (٥) . والثانية: طاهر بدليل ما روى جابر ﵁ أن رسول الله ﷺ سئل أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها) (٦) -٣- الجّلالة: فيها روايتان: إحداهما: نجس لما روى ابن عمر ﵄ قال: (نهى رسول الله ﷺ عن لحوم الجّلالة وألبانها) (٧)، ولأنها تنجست النجاسة والريق لا يطهر. الثانية: أنه طاهر لأن الضبع والهر يأكلان النجاسة وهما طاهران. وحكم أجزاء الحيوان من شعره وريشه وجلده حكم سؤره، فإذا وقع الحيوان في الماء وخرج حيًا فحكم الماء حكم سؤره. مسألة: إذا أكلت الهرة نجاسة ثم غابت ثم عادت وشربت من ماء، فهذا الماء لا ينجس. أما إن شربت قبل أن تغيب فسؤرها نجس لوجود أثر النجاسة فالماء ينجس. ⦗٤٨⦘ _________ (١) الترمذي: ج-١/ الطهارة باب ٥٠/٦٧. (٢) ما بقي. (٣) ابن ماجة: ج-١/ كتاب الطهارة باب ٧٦/٥١٩. (٤) البخاري: ج-٥/ كتاب الذبائح والصيد باب ٢٨/٥٢٠٢. (٥) البخاري: ج-٥/ الذبائح والصيد باب ٢٨/٥٢٠٨. (٦) البيهقي: ج-١ /ص ٢٤٩. (٧) ابن ماجة: ج-٢/ كتاب الذبائح باب ١١/٣١٨٩.
ثالثًا: مختلف فيه: -١- سائر سباع البهائم والطير فيها روايتان: إحداهما نجس، بدليل أن النبي ﷺ سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) (١) فمفهوم الحديث أنه ينجس إذا لم يبلغهما، ولأنه يمكن التحرز منه. والثانية: طاهر بدليل ما روى أبو سعيد الخدري ﵁ أن النبي ﷺ سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة. تردها السباع والكلاب والحُمُر. وعن الطهارة منها؟ فقال: لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر (٢) طهور) (٣) . -٢- الحمار الأهلي والبغل فيهما روايتان: إحداهما: نجس لحديث ابن عمر ﵄ قال: (نهى النبي ﷺ عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر) (٤)، وفي رواية عن أنس ﵁ (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها ⦗٤٧⦘ رجس (٥) . والثانية: طاهر بدليل ما روى جابر ﵁ أن رسول الله ﷺ سئل أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها) (٦) -٣- الجّلالة: فيها روايتان: إحداهما: نجس لما روى ابن عمر ﵄ قال: (نهى رسول الله ﷺ عن لحوم الجّلالة وألبانها) (٧)، ولأنها تنجست النجاسة والريق لا يطهر. الثانية: أنه طاهر لأن الضبع والهر يأكلان النجاسة وهما طاهران. وحكم أجزاء الحيوان من شعره وريشه وجلده حكم سؤره، فإذا وقع الحيوان في الماء وخرج حيًا فحكم الماء حكم سؤره. مسألة: إذا أكلت الهرة نجاسة ثم غابت ثم عادت وشربت من ماء، فهذا الماء لا ينجس. أما إن شربت قبل أن تغيب فسؤرها نجس لوجود أثر النجاسة فالماء ينجس. ⦗٤٨⦘ _________ (١) الترمذي: ج-١/ الطهارة باب ٥٠/٦٧. (٢) ما بقي. (٣) ابن ماجة: ج-١/ كتاب الطهارة باب ٧٦/٥١٩. (٤) البخاري: ج-٥/ كتاب الذبائح والصيد باب ٢٨/٥٢٠٢. (٥) البخاري: ج-٥/ الذبائح والصيد باب ٢٨/٥٢٠٨. (٦) البيهقي: ج-١ /ص ٢٤٩. (٧) ابن ماجة: ج-٢/ كتاب الذبائح باب ١١/٣١٨٩.
1 / 46
الباب الثاني (الأعيان الطاهرة والأعيان النجسة)
أولًا: الأعيان الطاهرة: -١ً- الإنسان سواء كان حيًا أم ميتًا بدليل قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) (١) . -٢ً- جميع أجزاء الأرض ومعادنها كالذهب والفضة والنحاس والحديد. -٣ً- جميع أنواع النباتات ولو كانت مخدَّرة (كالحشيشة والأفيون وجوزة الطيب) أو سامة. وهناك قول ثاني أن المسكر منها نجس. -٤ً- الحيوانات التي يؤكل لحمها مهما كان حجمها والحيوانات التي لا يؤكل لحمها إذا كانت بقدر الهرة فما دون في الخلقة كالنمس والنسناس ابن عرس والقنفذ والحية والفأرة والهرة ما لم تكن متولدة من نجاسة. -٥ً- مني الآدمي (٢) إن خرج من طريقه المعتاد دفقًا بلذة بعد استكمال تسع سنين للأنثى وعشر سنين للذكر ولو خرج على شكل دم لما روى علقمة بن الأسود (أن رجلًا نزل بعائشة ﵁ فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: ⦗٤٩⦘ إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله ﷺ فركًا فيصلي فيه) (٣) . ولأنه بدء خلق الآدمي (وعن الإمام أحمد أنه نجس ويكفي فرك يابسه ويعفى عن يسيره)، وكذا مني الحيوان الذي يؤكل لحمه طاهر. -٦ً- البلغم: ولو أزرق والصفراء والنخامة سواء خرجت من رأس أو صدر لما روى أبو هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (إذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره. تحت قدمه. فإن لم يجد فليقل هكذا. ووصف القاسم. فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض) (٤) . -٧ً- البصاق واللعاب والعرق والمخاط والدمع سواء كانت من بني آدم أو من حيوان يؤكل لحمه أو حيوان طاهر لا يؤكل لحمه. -٨ً- مأكول اللحم المذكى ذكاة شرعية. -٩ً- مرارة الحيوان المأكول اللحم بعد تذكيته ذكاة شرعية وكذا جلدة المرارة لأنها جزء من الحيوان المذكى فهي تابعة له في طهارته. -١٠ً- بول وروث وقيء ومذي وودي ومني ولبن وبيض ما يؤكل لحمه كلها طاهرة إذا كان علفها طاهرًا لحديث جابر بن سمرة ﵁ أن رجلًا سأل رسول الله ﷺ: (أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، فتوضأ. وإن شئت، فلا توضأ. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم ...) (٥) . وعن أنس ﵁ (أن رسول الله ﷺ كان يصلي في مرابض الغنم، قبل أن يُبنى المسجد) (٦) ⦗٥٠⦘ وعنه أيضًا قال: (قدم أناس من عُكل أو عرينة، فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي ﷺ بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا..) (٧) . أما ما كان أكثر علفه نجاسة فلبنه وبوله وبيضه وكذا لحمه نجس، ويمكن تطهيره بحبس الحيوان ثلاثة أيام ولا يطعم خلالها إلا طاهرًا فبعد ذلك تصبح كل هذه طاهرة. -١١- كل مالا تحله الحياة (شعر، صوف، وبر، ريش) من حيوان طاهر حي أو ميت فهو طاهر سواء كان منفصلًا أم متصلًا ولا ينجس بالموت لأنه لا تحله الحياة. قال تعالى: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين) (٨) فهذا دليل على طهارتها. أما أن كان من ميتة حيوان نجس فهو نجس. -١٢- ميتة الحيوان البري الذي لا دم سائل له بشرط عدم تولدها من نجاسة كدود الجرح. -١٣- ميتة الحيوان البحري باستثناء التمساح والضفدع والحية فإنها نجسة. _________ (١) الإسراء: ٧٠. (٢) هو من الرجل عند الاعتدال مزاجه أبيض غليظ ومن المرأة أصفر رقيق. (٣) مسلم: ج-١/كتاب الطهارة باب ٣٢/١٠٥. (٤) مسلم: ج-١/كتاب المساجد ومواضع باب ١٣/٥٣. (٥) مسلم: ج-١/كتاب الحيض باب ٢٥/٩٧. (٦) مسلم: ج-١/كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب ١/١٠. (٧) البخاري: ج-١ /كتاب الوضوء باب ٦٦/٢٣١. (٨) النحل: ٨٠.
أولًا: الأعيان الطاهرة: -١ً- الإنسان سواء كان حيًا أم ميتًا بدليل قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) (١) . -٢ً- جميع أجزاء الأرض ومعادنها كالذهب والفضة والنحاس والحديد. -٣ً- جميع أنواع النباتات ولو كانت مخدَّرة (كالحشيشة والأفيون وجوزة الطيب) أو سامة. وهناك قول ثاني أن المسكر منها نجس. -٤ً- الحيوانات التي يؤكل لحمها مهما كان حجمها والحيوانات التي لا يؤكل لحمها إذا كانت بقدر الهرة فما دون في الخلقة كالنمس والنسناس ابن عرس والقنفذ والحية والفأرة والهرة ما لم تكن متولدة من نجاسة. -٥ً- مني الآدمي (٢) إن خرج من طريقه المعتاد دفقًا بلذة بعد استكمال تسع سنين للأنثى وعشر سنين للذكر ولو خرج على شكل دم لما روى علقمة بن الأسود (أن رجلًا نزل بعائشة ﵁ فأصبح يغسل ثوبه، فقالت عائشة: ⦗٤٩⦘ إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله ﷺ فركًا فيصلي فيه) (٣) . ولأنه بدء خلق الآدمي (وعن الإمام أحمد أنه نجس ويكفي فرك يابسه ويعفى عن يسيره)، وكذا مني الحيوان الذي يؤكل لحمه طاهر. -٦ً- البلغم: ولو أزرق والصفراء والنخامة سواء خرجت من رأس أو صدر لما روى أبو هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (إذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره. تحت قدمه. فإن لم يجد فليقل هكذا. ووصف القاسم. فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض) (٤) . -٧ً- البصاق واللعاب والعرق والمخاط والدمع سواء كانت من بني آدم أو من حيوان يؤكل لحمه أو حيوان طاهر لا يؤكل لحمه. -٨ً- مأكول اللحم المذكى ذكاة شرعية. -٩ً- مرارة الحيوان المأكول اللحم بعد تذكيته ذكاة شرعية وكذا جلدة المرارة لأنها جزء من الحيوان المذكى فهي تابعة له في طهارته. -١٠ً- بول وروث وقيء ومذي وودي ومني ولبن وبيض ما يؤكل لحمه كلها طاهرة إذا كان علفها طاهرًا لحديث جابر بن سمرة ﵁ أن رجلًا سأل رسول الله ﷺ: (أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، فتوضأ. وإن شئت، فلا توضأ. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم ...) (٥) . وعن أنس ﵁ (أن رسول الله ﷺ كان يصلي في مرابض الغنم، قبل أن يُبنى المسجد) (٦) ⦗٥٠⦘ وعنه أيضًا قال: (قدم أناس من عُكل أو عرينة، فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي ﷺ بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا..) (٧) . أما ما كان أكثر علفه نجاسة فلبنه وبوله وبيضه وكذا لحمه نجس، ويمكن تطهيره بحبس الحيوان ثلاثة أيام ولا يطعم خلالها إلا طاهرًا فبعد ذلك تصبح كل هذه طاهرة. -١١- كل مالا تحله الحياة (شعر، صوف، وبر، ريش) من حيوان طاهر حي أو ميت فهو طاهر سواء كان منفصلًا أم متصلًا ولا ينجس بالموت لأنه لا تحله الحياة. قال تعالى: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين) (٨) فهذا دليل على طهارتها. أما أن كان من ميتة حيوان نجس فهو نجس. -١٢- ميتة الحيوان البري الذي لا دم سائل له بشرط عدم تولدها من نجاسة كدود الجرح. -١٣- ميتة الحيوان البحري باستثناء التمساح والضفدع والحية فإنها نجسة. _________ (١) الإسراء: ٧٠. (٢) هو من الرجل عند الاعتدال مزاجه أبيض غليظ ومن المرأة أصفر رقيق. (٣) مسلم: ج-١/كتاب الطهارة باب ٣٢/١٠٥. (٤) مسلم: ج-١/كتاب المساجد ومواضع باب ١٣/٥٣. (٥) مسلم: ج-١/كتاب الحيض باب ٢٥/٩٧. (٦) مسلم: ج-١/كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب ١/١٠. (٧) البخاري: ج-١ /كتاب الوضوء باب ٦٦/٢٣١. (٨) النحل: ٨٠.
1 / 48