جاء أربعة فلاحين ليقلوا جسد الميتة على أغصان من الصفصاف ، فرحلنا في الليل وكنت أمشي خلفهم مخافة أن تخونني الزفرات فيرى الفلاحون على وجهي خصام الإيمان واليأس! كانت الليلة من تلك الليالي الرهيبة التي تأخذ بشجاعة الإنسان فتلقيها في لجج الخوف، وكانت الطرقات الوعرة تشرب الضباب المثلج، والغيوم المتلبدة تلامس الأشجار عند مرورها، والأوراق الصفراء تتموج على الأرض، وكان هواء الشتاء الثقيل يهب هبوبا شديدا فيهز التابوت بين أذرع الفلاحين ناثرا أزهار الأكاليل على وجهي الشاحب كأنما هو رمز الحظ الغريب يرمي على جبين الإنسان السعيد حطام أفراحه ومسراته بسخرية وحقارة! وكان القمر التائه بين الغيوم الشاحبة يضئ تارة على أغصان الصنوبر وطورا يسترجع نوره كالضنين بماله فيتركنا عرضة للظلمات وهدفا للعثور، أما أنا فلكي أكمل ما عهد إلي وأخفي سرائر نفسي كنت أحاول أن أنشد بعض ما ينشدونه في جنازة الميت غير أن نبرات صوتي كانت تتقطع في كل عبارة أتلفظ بها وتستحيل إلى زفرات وشهيق! لم يبق علي إلا أن أتبع من أحب! لم يبق ما آسف له في هذا المنفى الجميل! فكل ما كان قد اضمحل وتلاشى وأصبحت وحدي! •••
كان الفلاحون يقفون من وقت إلى آخر ويضعون حملهم الرهيب على الأعشاب الرطبة ثم يذهبون عطاشا إلى بعض البحيرات، فأبقى وحدي، مصليا بخشوع أمام النعش، تاركا شفاهي المضطربة تلامس حافة الأخشاب! ثم أنهض متثاقلا وأسير في طريقي كأني رويت غلتي من أحد الينابيع.
في تلك الساعة كان الغسق يكشف الأفق شيئا فشيئا فنظرت إلى ذلك المشهد كما ينظر الإنسان إلى طيف من خلال أحلامه! كل صخر من تلك الصخور كان يتلفظ باسم لورانس، فهناك الصخرة المجوفة، حيث كان المعاز يضع لنا الطعام كل ثلاثة أشهر، وهناك الجسر، حيث رأيتها لأول مرة هاربة من الجنديين، وهناك الوادي الصغير، وادي الحب والأحلام، وهناك البحيرة المتموجة والأزهار الجميلة!
وأخيرا بلغنا تربة والدها فغيبنا الجسد في تربة بالقرب منها، وبينما كان الفلاحون يحفرون في الأرض كنت جالسا أمام المياه، ملقيا رأسي الواهي بين يدي، مصغيا إلى ضربات المحفر تتلاشى عند كل ضربة منها صورة من صور هذه المشاهد وتتوارى مع التابوت، وعندما حملت الجثة لتلقى في ذلك التلم اللانهائي تمنيت أن آخذها فترة بين ذراعي وأضمها إلى صدري حتى تصغي إلى دقات قلبي من خلال الموت وتستريح ولو قليلا على ذلك الصدر الذي أحبته في أيام طهرها وحلمت به في ليلها العصيب! •••
عندما توارت لورانس عن هذا العالم شعرت أن واجبا لا يزال علي، فالتفت إلى الفلاحين وقلت لهم ليعودوا وحدهم وبقيت أمام الضريح أبكي بسكون وخشوع ساعة الوداع الخالد!
آه، إن الذي حدث في تلك الليلة الرهيبة بين نفسها ونفسي، بين نفسها الراقدة في عالم البقاء ونفسي المضطجعة على تراب الفناء، لا يقدر إنسان أن يصفه! إن من الكلمات المقدسة ما لا يجسر لسان بشري أن يتلفظ بها ولا تجرؤ يد أن تدونها بل على النفس وحدها أن تصغي إلى فحواها وتحمله إلى عالم الخلود! •••
عندما أفرغت قارورة دموعي أمام الخالق وددت أن أعلق نظرة أخيرة بتلك الأماكن المقدسة فقضيت الساعات الطوال طائفا بين الصخور والبحيرات مسترجعا تذكاراتي القديمة باحثا عن آثارنا، وقد أغمي عليها تحت الجليد! فرأيت الأعشاب قد غمرت كل شيء بأمواجها المتسلقة كأنما هي بحر من النبات، وأبصرت الأشواك تمتد في كل الجهات فتعوق الأقدام عن المسير، فالأغراس التي كنا نبسم لها لم تعد تعرفني والبحيرات التي كنا نردها تحولت إلى قذارة وصبغت الأوراق المتناثرة زبد شاطئها بصفرة الموت، أما الأدواح التي كانت تحجب الكهف بأغصانها فقد استحالت واأسفاه إلى خرائب كالحة وأوت الحراذين في جذوعها المنتنة، فاتجهت نحو المغارة بأقدام متثاقلة مضطربة ومشيت على أوراق الخريف المتراكمة على بابها، وبينما أنا أطأ تلك البقايا سمعت شيئا يطقطك تحت أقدامي فانحنيت إلى الحضيض المصفر فأبصرت عظاما عرفت أنها عظام تلك الوعلة المسكينة، وقد أغفلناها بين تلك الصخور الجرداء فماتت من الجوع تاركة عظامها تبيض على عتبة الكهف، وأخيرا دخلت إلى منفاي القديم وقد أمسكت لهاثي من الرهبة فجمد الدم في عروقي وتصبب العرق البارد من جبيني! إيه معبد السعادة المائتة ما الذي أخنى عليك في مدة قصيرة من الوقت؟ ما هذا التراب، وما هذه الوحول على بابك السري؟ لم هذا العوسج يمنع النسيم عن الدخول إليك؟ لماذا لم تعد الطيور تشرب من المياه المتجمعة في حفرة صخرك؟ أين أعشاش الحمائم والسنونو، هل فتكت بها أضراس الثعالب؟ لماذا أصبحت دمارا وتدنيسا بعد أن كنت مأوى السلام والشفقة؟ ما هناك؟ إني أرى عظاما ضامرة وهياكل زرقاء تلطخ هذا المقعد المقدس، حيث كانت لورانس ترقد رقادها العذب على فراش من القش!
أيتها الأرض، يا حمأة تنبت الأزهار وتعفرها، لماذا تحرثين أقدامنا في مروجك؟ ألا تأذنين لنا أن نطبع على وجهك ولو آثار حسراتنا؟ أتأبين أن نشاهد أفراحنا، حيث ذرفنا الدموع؟ ألا تبقي قبورنا في أحشائك بعض رماد من أجساد أحبابنا؟ أف منك أيتها الأرض، فما أنت إلا حقارة وتدنيس!
خرجت من الكهف بحدة وغضب فرأيت السيول قد بلغت البحيرة، وغطت الثلوج أعشاب الأرض كبساط أبيض، فبرز قبر لورانس كأنه رابية خفيفة أو كمندوف من القطن يجمعه ولد صغير! عندئذ أبصرت شحرورين، وقد راعهما ذلك القبر المتحرك، يحاولان أن يهربا فيواربان تارة وينتفضان أخرى تحت الهواء البارد فعرفتهما وناديت كلا منهما باسمه، غير أن دوي السيول حمل ندائي وخنقه في لجته، فنزلت تلك القمة مشتتا أفكاري حتى لا أفكر ولا أرى وكأن رصاصا كان يجر قدمي!
فلنيج في 16 كانون الأول سنة 1802
অজানা পৃষ্ঠা