اتجهت الأنظار نحو الشيخ إبراهيم ذي اللسان المفوه واللغة الفصيحة والبلاغة المبهرة، ليقص لهم ما يريح النفس ويجلي الهم ويحلي الجو. فبدأ بمقولة لحسن بن سهل: «الآداب عشرة؛ فثلاثة شهرجانية، وثلاثة أنوشروانية، وثلاثة عربية، وواحدة أربت عليهن، فأما الشهرجانية، فضرب العود، ولعب الشطرنج، ولعب الصوالج. وأما الأنوشروانية، فالطب والهندسة والفروسية. وأما العربية فالشعر والنسب وأيام الناس. وأما الواحدة التي أربت عليهن، فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس بينهم في المجالس.» فنحن ما بين الثلاثة العربية والواحدة التي أربت عليهن، أقص عليكم من أخبار العابدين الحامدين الأولياء المنزهين الذين وصلوا المقامات العلى وكشفت لهم الأسرار وعلموا بالأحوال والأهوال وزهدوا في الدنيا ، وقلوا وأقلوا ولبسوا الصوف واخشوشنوا ولم ينعم لهم سرير، ولا ملأ النوم لهم جفنا. وصدق ابن معتز حين قال: «وعد الدنيا إلى خلف، وبقاؤها إلى تلف، وبعد عطائها المنع، وبعد أمانها الفجع، طواحة طراحة، آسية جراحة، كم راقدا في ظلها قد أيقظته، وواثقا بها قد خانته، حتى يلفظ نفسه، ويودع دنياه، ويسكن رمسه، وينقطع عن أمله، ويشرف على عمله، وقد رجح الموت بحياته، ونقض قوى حركاته، وطمس البلى جمال بهجته، وقطع نظام صورته، وصار كخط من رماد تحت صفائح أنضاد، وقد أسلمه الأحباب، وافترش التراب، في بيت نجرته المعاول وفرشت فيه الجنادل، ما زال مضطربا في أمله، حتى استقر في أجله، ومحت الأيام ذكراه، واعتادت الألحاظ فقده.» فخرجت أصوات من هنا وهناك: «صدق القائل وأجاد الناقل»، «أحسنت التذكرة وأجزت الوصف». التفت حسن إلى هشام فرآه يتأمل القمر، سارحا في تفكير عميق غير آبه بما يجري في المجلس من أحاديث شيقة وقصص معبرة وتذكرة بزوال الدنيا الفانية والآخرة الباقية، فهمس حسن في أذنه: أين أنت يا هشام؟ - هناك، حيث يجب أن أكون.
استغرب حسن من إجابته المبهمة، ثم افترقا عن أهل المجلس خلسة وهم غارقون في لج قصة من قصص الشيخ إبراهيم. - أخبرني ما الذي يجري معك؟ - لا شيء، أخبرني عنك أنت. - دعك مني وقل لي ما بك؟
امتلأت عينا هشام بالدموع، مسح وجهه بكفه، أخذ نفسا عميقا، كان كل شيء فيه يريد البكاء والبوح إلا أنه يقاوم ذلك ويصد وجهه عن حسن. - دعني وعد إلى المجلس. - لا أدعك إلا بعد أن تخبرني، ما الذي جرى؟ هيا تكلم.
التفت إليه وقال بصوت مبحوح: لقد استشهد «عمر». - رحمه الله، ومن يكون عمر؟ - عمر الصفدي، التقيت به للمرة الأولى في عملية الكمين الذي نصبناه على طريق القدس-رام الله، أتذكر يوم أخبرتك عنها؟ - أذكر جيدا. - بعد تلك العملية المشتركة بين فصيلنا وفصيلهم تعرفنا على بعض، من الوهلة الأولى شعرت أنني أعرفه منذ زمن، لربما خالجك مثل هذا الشعور أن تتحدث مع إنسان للمرة الأولى فتشعر أنك تعرفه منذ زمن بعيد بعيد جدا، كان يحمل في وجهه البشوش صدق ثورتنا وجهادنا. كل مقاتلي الفصيل كانوا يكنون له الحب والاحترام ويتحدثون عن إقدامه وبسالته في المعارك، كان على وشك الزواج، أخبرني قبل عملية الهجوم الأخيرة على إحدى ثكنات الجيش البريطاني، أنه إذا خرج منها سالما فسيأخذ إجازة طويلة ليتزوج هناك في قريته على أطراف صفد، كان متحمسا جدا يجوب بين المقاتلين ويبث روح الحماسة فيهم، وكأنه ماض إلى عرسه لا إلى حتفه.
كانت الثكنة محصنة بشكل جيد، أخذنا مواضعنا حولها فرمى قائد العملية قنبلة يدوية على مدخل الثكنة فسقط جنديان على الأرض وبدأت المعركة، كانت مفاجأة غير متوقعة للعدو، فالهجوم حصل مع بزوغ الفجر، قتلنا كل الجنود عند الباب، لكن الجندي صاحب مدفع الرشاش في أعلى الثكنة شل حركتنا، ينهمر الرصاص كالمطر من سلاحه لا يستطيع أحد تركيز الهدف عليه من شدة الرمي، كان التأخير ليس لصالحنا؛ فالإمدادات العسكرية إذا وصلت سنخسر الكثير من مقاتلينا، نادى القائد إن لم نقض عليه سيقضى علينا، أثناء ذلك انبرى عمر من بيننا فجأة أطلق رصاصة من بارودته فانهمرت الطلقات على صدره وهوى الجندي من أعلى الثكنة ميتا، وسقط عمر بيننا يلفظ أنفاسه الأخيرة، هرعت إليه وأنا أصيح بصوت عال: «عمر!» حملت رأسه بكفي اليسرى، كان يبتسم وبالكاد يستطيع الكلام، يأخذ نفسا يخرج حشرجة من صدره وهو يقول لي: يبدو أن الله أراد عرسي في السماء لا في الأرض.
وأنا أبكي وأهز رأسي ولا أستطيع الكلام، بقي هكذا حتى فارق الحياة، وعيناه مفتوحتان وكأنه يراقب سمو روحه إلى السماء. - يا لشجاعته! رحمه الله. - لو ترى يا حسن كيف كان تشييع جنازته في القرية، منظر مهول تجمع المئات من الأهالي .. أطفال ونساء ورجال وكبار بالسن، والبعض قدم من القرى المجاورة، وآخرون من المدينة «من صفد نفسها»، أطلقنا الرصاص في السماء تكريما له، وارتفعت أصوات التكبير: «الله أكبر ولا إله إلا الله، والشهيد حبيب الله».
الفصل الثلاثون
معسكر أوشفيتز - بولندا 1945م
غطت الثلوج المعسكر بطبقة سميكة، وكست أسطح الثكنات والطرقات والأشجار بمنظر أبيض جميل. مع توالي ضوء الفجر كان الطابور الصباحي في الساحة مميتا، البرد يتسلل إلى أجسادهم الهزيلة التي تمكن منها الوهن واعتراها الجوع الشديد. تعالت صيحات الأوامر وصفارات القيادة، معلنة بدء يوم تعيس آخر، كان سماع تلك النبرات الفظة الصاخبة روتينا يوميا يستمتع بها أولئك الوحوش بأجساد وأشكال آدمية.
كانت فكرة الانتحار تراود الكثير من المعتقلين؛ فالإحساس بالعجز وعدم القدرة على المواصلة أكثر وتحمل كل ألوان التعذيب والقسوة ودنو خطر الموت كل مرة وقتل البعض أمامهم أو وقوعهم جثة هامدة قد كسرت من هيبة الموت لديهم، الموت الذي يخشاه الإنسان بفطرته، كانت الإرادة على البقاء تنهار يوما بعد يوم حتى يصل حال من يقرر الانتحار أنه يبقى على سريره وهو يسمع صفارات القيادة وصراخ الحراس.
অজানা পৃষ্ঠা