دهش حسن من تصرفه وقطب حاجبيه مستغربا وهو ينظر بوجه هشام، ثم التفت إليه مبتسما: نعم أومن؛ فهو الركن الثالث للإيمان عندنا . - وتؤمن بإبراهيم؟ - عليه السلام أبو الأنبياء وخليل الله، بالتأكيد أومن، لكن أين تريد أن تصل؟ كفاك أسئلة غريبة. - ما دمت تؤمن بالكتاب والنبي فاسمع ماذا جاء فيه: «في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا لنسلك أعط هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات.» فكيف تقول هذه الأرض ليست لكم؟
سكت حسن هنيهة، كانت تلك المرة الأولى التي يسمع فيها آية من كتاب اليهود «التوراة»، ارتسمت ابتسامة على وجه بنيامين وظن أنه أسكت حسن وحاصره في زاوية ضيقة، فجاءه الرد مباغتا. - لو كانت الأرض له بالأصل لماذا يعده الرب بها إذن؟ أليس هذا دليلا صريحا أنها لم تكن له؟ - الأرض للرب يهبها لمن يشاء. - ومن قال إن نسل إبراهيم اليهود فقط؟! أليس إسماعيل من نسله وأكبر أبنائه؟ - هو ابن جارية، ولم يكن وعد الرب يشمل نسله، الوعد لنسل إسحاق فقط. - وهل الرب الذي تؤمنون به يفرق بين الأبناء ويميز بين خلقه على شيء هو خلقه فيهم ولم يختره الإنسان بنفسه؟ ومن ثم لو كنتم مؤمنين حقا بهذا الوعد الرباني لما تركتموه وراءكم واتكأتم إلى وعد بلفور البشري؟ ألهذا الحد استهنتم بوعد الرب حتى لجأتم إلى البشر؟
ارتسم على وجه بنيامين الدهشة، وحار ماذا يجيب وبماذا يرد؟ فحمل نفسه ورحل دون أن ينبس ببنت شفة، فتعالى صوت ضحكهما وهما ينظران إلى بنيامين وهو يمشي ثم يركض ثم يلتفت وكأنه مخبول.
كان تأثر حسن الشديد بالأستاذ محمود الخطيب وكثرة سؤاله له حول هذه المسائل ودخوله في نقاشات كثيرة معه، قد كون عنده سرعة البديهة مع مخزون جيد من المعلومات الدينية التي تعينه في مثل هذه المواقف.
الفصل الحادي والعشرون
غيتو وارسو - بولندا 1941م
هؤلاء الأطفال المشاكسون لا يعرف الخوف طريقا إلى قلوبهم، إنهم يفعلون ما لا يستطيع الكبار مجرد التفكير فيه هنا في هذا الغيتو اللعين، لكن الحاجة لا تعرف المستحيل، إنه الحرمان من أبسط متطلبات الحياة، والجميع يدرك، صغارا وكبارا، أن هذا الجدار العازل المبني من الطوب الأحمر هو الحد الفاصل والحجب والتقنين، وكل من يعبره يعبر إلى الحياة، وكل من يقبع خلفه يقبع في الجحيم، في الجوع والعوز والموت البطيء.
كان أولئك الأطفال قد تمكنوا من عمل فتحة صغيرة تسمح لأجسادهم النحيلة بالعبور من خلالها في إحدى الزوايا البعيدة عن الأنظار لسور الغيتو، صادفهم مايكل وهم يحملون البعض من قطع الخبز والحلوى والفواكه التي سرقوها من الدكاكين، كانت الفرحة المرتسمة على وجوههم بالعودة سالمين مع الغنيمة أجمل شيء ممكن رؤيته في ذلك الجحيم، تمنى مايكل لو أنه طفل مثلهم ويخوض معهم تلك التجربة الخطيرة والمسلية كثيرا بالنسبة لهم، ما أعظم تلك الطفولة التي خرقت قانون أعتى وأجرم منظومة عسكرية في العالم، واستطاعت أن تغتنم منهم ما تريد دون سلاح أو تخويف كما يفعلون هم في العادة. شعر مايكل حينها أن الشجاعة لا تحتاج إلى سلاح أو قوة عضلية بقدر ما تحتاج إلى قلوب لم تذق ذل الخضوع، ولا تعترف بمن حولها مهما كان إجرامه وبطشه شديدا ولا تمتلك الرحمة والشفقة طريقا إليها.
كان الوقت بعد الغروب والجو مائلا إلى العتمة مع القليل من ضوء النهار الخافت، حتى توقيت دخولهم كان مدروسا؛ ففي هذا التوقيت يقل نشاط الحرس بعد دخولهم جميعا إلى الغيتو أعادوا رص الطابوق فوق بعضها البعض لغلق الفتحة وعدم إثارة الانتباه لوجودها، ثم فروا هاربين إلى مأواهم.
مرت ثلاثة أيام على أخذهم سارة إلى المشفى، شعر مايكل بأمر غريب وهو يتجول كالعادة في أزقة الغيتو؛ إذ لم يعتد الجلوس في البيت مذ كان في ميونخ، ما عاد يرى أولئك المرضى والمعاقين الملقين على قارعة الطريق، لقد اختفوا جميعا! قال في نفسه متسائلا: ما الذي حل بهم يا ترى؟ هل وجدوا من رفق بهم وأنقذهم من القذارة التي كانوا عليها؟ لكن الكل مرة واحدة؟! لا يعقل ذلك، لا بد من أمر قد حصل لهم ، التغييرات التي يمكن ملاحظتها في الغيتو لا تكون إلا بالتدخل النازي وأوامرهم إلى عملائهم في المجالس اليهودية.
অজানা পৃষ্ঠা