قرب شجرة جوز وحيدة على سفح التلة تنحنح المختار، ثم قال بصوت أجش: أنزلاني.
كان يبدو عليه الاحتضار .. ارتمى إليه أرتين. - أبي لا تمت أرجوك، سنصل إلى قرية «المنصورية» ونجلب لك الطبيب، تحمل قليلا، أرجوك يا أبي تحمل.
تنفس المختار بصعوبة، ثم قال: كانت أمنيتي أن أموت وأدفن بأرضنا هناك في «أنجرلك» في مقبرة العائلة، لكن ما من فائدة، لم تفهموا خطورة ما فعلتم، أهذا الذي يرضيكم؟ أن نموت مثل الكلاب على الطرقات؟ - سامحني أرجوك، نعم أنا لم أسمع كلامك، لكن الثورة كانت ماضية بي وبدوني. - قل لي أين قادتكم؟ لماذا لم يلاقوا ما يلاقيه شعبنا؟! - لكن الحكومة التي أفنيت عمرك بالولاء لها، ها هي اليوم أخرجتك من دارك، لماذا لا تلومهم بما يفعلون من جرائم بحق شعبنا؟
التفت إليه غريغور ينهره: هذا الكلام ليس وقته الآن يا أرتين! - دعه يا غريغور، هذا النقاش عمره أكثر من عقدين.
ثم التفت إلى أرتين وقال: وماذا تريد منهم أن يفعلوا بعد وقوفكم مع الروس؟ لم تبقوا لنا عذرا أو تبريرا نستطيع الاتكاء عليه أمامهم.
كان يتكلم ويستنشق الهواء مع صوت صفير يخرج من صدره يظهر مدى صعوبة التنفس. - أبتي، لم تكن الغاية أن نوصل شعبنا إلى ما وصل إليه حالهم اليوم، نحن أردنا إعادة بناء دولتنا المستقلة، أردنا خلاصهم من ظلم الحكم العثماني يا أبتي، ثم نحن الثوار الذين وقفنا أمامهم وقاتلناهم وتحالفنا مع الروس، فلماذا يتم تهجير الشعب بأكمله؟ فليحاسبونا نحن لا الشعب الأرمني كله. - ألم يهجر المسلمون من البلقان بمئات الآلاف؟ لقد كانت إمبراطورية عظمى تدعمهم، ومع ذلك تم قتلهم وتشريدهم من أراضيهم، لماذا لم تأخذوا العبرة منهم وتعدلوا عن قرار وقفوفكم مع روسيا في الحرب؟ لقد باعوكم في أول اختبار حصل لهم، فروسي واحد عندهم أهم من ألف أرمني.
طأطأ رأسه أرتين وهو يقول: لقد أخطأنا، أعترف بذلك. - وما فائدة هذا الاعتراف بعدما خسرنا كل شيء وتحولنا من أمة لها أرضها وتاريخها إلى مشردين وعبيد وخدم، وبيعت نساؤنا في الأسواق، وتشردنا بين الأمم، من يجمعهم ويعيدهم إلى أرضنا مرة أخرى؟! هل الروس أم الأوروبيون وإرسالياتهم! ثم أين هم مما يقاسيه إخوتهم في الدين، هذا إن كان لديهم دين وانتماء للمسيحية. ستلعنكم الأجيال القادمة يا ولدي ويحملونكم خسارة أرضهم وتاريخهم، لكنني أعلم أن قادتكم الجبناء الآن يجلسون في قصور سادتهم وملوكهم ليكتبوا التاريخ على أهوائهم ويبرئوا ساحتهم من المسئولية في هذه الجريمة التي كان لكم فيها اليد الأولى، ويضعوا الإجرام والوحشية بحق العثمانيين والأكراد، وأنا لا أبرئ هؤلاء أيضا، لكنهم لم يفعلوا هذا دون سبب. - لكن يا أبتي ألم تر كم جرت على أيديهم من مذابح طوال سنين خلت، كيف لنا أن نقف معهم؟! ثم إن التهجير القسري والمذابح التي يقومون بها الآن ما هي إلا تكملة لتلك المذابح ومخطط لها مسبقا. - مخطط لها مسبقا!
قالها وهو يبتسم ابتسامة استهزاء، ثم استرسل بالكلام: أنا أعرفك أذكى من ذلك يا بني، أية حكومة غبية هذه التي تريد إبادة شعب كامل، وقبل الإبادة يزج أبناءها في جيشها ويدربهم على القتال ويعطيهم السلاح! هل العثمانيون حمقى حتى يعطوكم السلاح الذي كانوا في أمس الحاجة إليه؟ ألم تخونوا الدولة عندما فررتم من المعارك مع أسلحتكم ثم تجمعتم على شكل عصابات لضرب خطوط الإمداد العسكري؟ قل لي ماذا يفعلون بنا بعد كل هذا؟ أتستغرب من قتلنا وتهجيرنا؟ أية حكومة هذه التي تتهاون مع هكذا خيانة، كم خسروا من جنود وأراض بسبب خيانتكم لهم؟ قل لي كم؟! - هون عليك يا أبتي ، لا تتعب نفسك بالكلام أرجوك. - لقد قتلتم كل أمل لشعبنا في الحياة .. فليسامحكم الرب على فعلتكم، فليسامحكم الرب!
بعدها بدأ يتنفس بصعوبة أكبر ويصدر صوت حشرجة من صدره. - عندما أموت ادفنوني في قبر من دون شاهد، لا أريد أن يعرف أحفادي بمكان رفات جدهم الذي لم يستطع الحفاظ على أرضهم. ثم نظر في عيني أرتين نظرة تحمل كل آلام الأرمن ومآسيهم فيها وأغلق عينيه إلى الأبد.
صرخت أمه ونثرت التراب فوق رأسها وهي تبكي وتنوح عليه، ارتمى أرتين على صدره وهو يبكي ويقول: قم يا أبي أرجوك قم، أبي أرجوك لا تحملني ذنب الأمة كلها، نعم عصيتك ولم أسمع قولك! نعم أذنبت بحقك وبحق كل من أوذي وخسر أهله وماله وأرضه جراء ما حصل!
অজানা পৃষ্ঠা