الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس
الملاحق
الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس
الملاحق
الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس
الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس
ومشروع استقلال مصر في سنة 1801
تأليف
محمد شفيق غربال
الجنرال يعقوب حنا (نقلا عن كتاب همصي الجنرال يعقوب صحيفة 113).
الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس
ومشروع استقلال مصر في سنة 1801
في الأيام الأولى من شهر يوليو سنة 1798 نزل بأرض مصر جيش فرنسي يقوده نابليون بونابرت. ولم تكن هذه أول إغارة لهم عليها، ففي القرنين الثاني عشر والثالث عشر حاولوا امتلاكها، وتلاقت صفوة فرسانهم بمماليك مصر في أكثر من موقعة.
وكان الفرنسيون في تلك الأيام الغابرة - كما كان في أهل الغرب عامة - أقل حضارة وإتقانا لفن الحرب كما مارسته العصور الوسطى، وكان الفارس من الفرنجة صورة سقيمة من المملوك الشرقي، فكانت عاقبة تلك الإغارات الفشل.
ومضت خمسة قرون تحول فيها فارس العصور الوسطى - كما عرفه سان لويس وبيبرس - إلى الرجل الغربي الذي سيعرفه مراد والألفي والبرديسي في 1798. خمسة قرون زال فيها النظام الإقطاعي وما ترتب عليه من طرق الحكم والحرب وعلاقات طبقات الأمة بعضها ببعض. خمسة قرون رأت انفصام وحدة الغرب الدينية والسياسية وظهور مناهج العلم الحديثة وطرق التنظيم السياسي والاقتصادي الجديد. أما مماليك مصر فكانوا في 1798 كما كانوا في 1250 في الحرب والتفكير، أو كانوا على حال أسوأ بفقدان استقلالهم ودولتهم وما كانوا يجبونه من مكوس مفروضة على تجارة الشرق المارة في أرضهم. كذلك أهل مصر لم يصلهم عن انقلابات الغرب إلا أضعف الأنباء، وظلوا في كل مقومات الحياة الوطنية حيث كان آباؤهم.
اصطدم المماليك في صيف 1798 بغرب غير الغرب الذي عرفوه أيام الحروب الصليبية. وسرعان ما رأوا أن لا أساس لما زعموه «من أنه إذا جاءت جميع الإفرنج 1798-1801 لا يقفون في مقابلتهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم»
1
وتمكن الفرنسيون من احتلال مصر.
وحكم الفرنسيون مصر مدة تزيد قليلا على ثلاثة أعوام. وقد تخللت هذه المدة محاولة من جانبهم لفتح الولايات السورية. وضيق عليهم أثناءها حصار بحري إنجليزي. وقام المصريون على حكمهم كلما أمكن ذلك. وأباد منهم الطاعون وغيره من الأمراض الوبائية عددا لا يستهان به. وظل مراد ومماليكه ومن انضم إليه من عرب مصر والجزيرة العربية شهورا عديدة ينازعونهم ملك الصعيد شبرا شبرا وأخذت تبطل التجارة البحرية، ويقل ورود قوافل دارفور وسنار وفزان وبرقة وغيرهما من بلاد المغرب. ولم تطب للفرنسيين الإقامة بمصر فقد وجدوها دون ما توقعوا،
2
وشق عليهم البعد عن وطنهم وبخاصة بعد ما بلغهم من تألب الدول الأوروبية من جديد ضد فرنسا وإرغامها على التخلي عن فتوحها في إيطاليا وغيرها. وحتى مصر نفسها، عرفوا معرفة أكيدة أن السلطان قد اعتزم ألا يتخلى عنها، وأرسل نحوها من ناحيتي البحر والشام جموعا من جنده قد لا تكون قيمتها الحربية مما يأبه له الغربيون ولكنها، ولا بد، لها مع الزمن أثر.
لا بد من تذكر هذه الظروف عند الحكم على الاحتلال الفرنسي. ولا بد إذن من الفصل بين أمرين مختلفين تماما: الحكم الفرنسي كما كان، والحكم الفرنسي كما يمكن أن يكون لو خلص مما انتابه من ظروف الحرب والفتن واتسع له الزمن ليجري على أسس الاستعمار الحديث.
ولا يمكن الشك في أن الفرنسيين لو خلص لهم ملك مصر لحكموها كما ينتظر من حكومة جمهورية قايمة على قواعد الثورة الفرنسية، أتيح لها في عصر بدأ فيه الانقلاب الاقتصادي الكبير أن تحكم قطرا زراعيا خصبا ذا مركز جغرافي فذ كوادي النيل. وأمة عربية إسلامية ذات تاريخ مفعم بعبر الدهر كالأمة المصرية. لو خلص لهم حكم مصر لبذلوا جهدا صادقا في تنمية الموارد بتنظيم الري وضبط النيل. وقد كتب بونابرت في مذكراته فصلا رايعا عن ضبط النيل بإنشاء سدين على فرعيه عند رأس الدلتا.
3
ولو دامت مدتهم في مصر لعملوا كل ما يستطيعون للاستفادة من مركز مصر الجغرافي، ولوصلوا بين البحريين الأبيض والأحمر - وكتاب وصف مصر يشتمل على الدراسات العلمية الأولى لهذا المشروع الخطير.
4
واستعمار مصر كان لا بد أن يؤدي إلى اتساع النفوذ الفرنسي على ساحلي البحر الأحمر وإلى ما وراء سيناء من ناحية فلسطين والشام، وأن يؤدي أيضا للتقدم نحو منابع النيل وجعل مصر المدخل والمخرج لتلك الأرجاء الأفريقية الواسعة وحل اللغز الجغرافي القديم. وقد سجل تاريخ القرن التاسع عشر تحقيق الكثير من هذا على يد محمد علي، مما يدل على أن خطط الحكومات ليست مما يستنبط من بطون الكتب ولا مما تجود به القرايح، إنما هي مما يمليه الواقع الجغرافي ويكرره التاريخ في أدواره المتباينة.
ولو دام الاحتلال الفرنسي لسلك نحو المصريين مسلكا يكون من أثره تحسين كثير من أحوالهم، ثم يعمد بعد هذا التحسين إلى إبطال النمو - أو إلى إبطاله في بعض النواحي وتوجيهه في الاتجاه الذي يريد. ولم يكن بد من اهتمام الفرنسيين بهذا التحسين الأبتر بحكم الإنسانية المشتركة وبحكم منفعتهم: يقاوم الأوبية بإنشاء المستشفيات وما تستلزمه من مدارس الطب والمحاجر الصحية حفظا للقوى العاملة في الإنتاج الزراعي الذي يغذي الخزانة العامة ويمون التجارة، ومنعا لانتقال المرض إلى الفرنسيين. يصلح الأداة الحكومية وينوع الإدارات صيانة للأمن وضبطا للأموال العامة. ويستلزم هذا إصلاح نظام الجباية ونظام الضرايب. ويتبعه إلغاء الالتزام، واستقرار ملكية الفلاح للأرض.
5
يفتح الأبواب لرءوس الأموال الفرنسية والنظم التجارية والمعاملات الغربية. ويؤدي هذا لتنظيم القضاء على أساس غربي ولدخول القوانين الغربية. ويعنى بإعداد طايفة من أبناء البلاد تسد حاجة الإدارة من صغار الموظفين. ولو دام الاحتلال الفرنسي لاعتمد بعض الاعتماد في الدفاع عن البلاد على جيش وطني من أبنايها.
6
ولو دام الاحتلال الفرنسي لاحتاط أشد الحيطة في كل ما له علاقة بالتفكير الديني من المسايل الاجتماعية وموضوعات البحث العلمي. فالحاكم الغربي يحب أن تكون قواعد الإنتاج الاقتصادي غربية صرفة؛ لأن هذه القواعد تزيد الإنتاج والزيادة مما يهمه. ولكنه يكره من المحكومين الشرقيين الانقلاب الاجتماعي والبحث العلمي الحر. وذلك لأسباب: منها حرصه على ألا يظهر للعامة في مظهر الهادم للعادات المشجع على التحرر من قواعد الدين، ومنها ظنه أن تلك الانقلابات لا بد وأن تؤدي في النهاية إلى الرغبة في الاستقلال، ومنها الميل إلى المحافظة على المظاهر الشرقية من قبيل الاحتفاظ باللطايف والتحف.
والمتأمل في أحوال الأمم الإسلامية في الوقت الحاضر يتحقق من صدق ما ذهبنا إليه، فإنه يجد أن أشد هذه الأمم تطرفا في الهدم والتغيير الأمة التركية العثمانية والأمة الفارسية، وهما الأمتان اللتان تخلصتا تخلصا تاما من حكم الغرب السياسي.
أما عن نظام الحكم فالمنتظر من الاحتلال الفرنسي - لو أن أيامه دامت - أن يبقى حكم القرى على ما عرفته مصر في عصورها المختلفة في أيدي العمد والمشايخ، وأن يعهد لفرنسيين في إدارة الأقاليم، وأن تسود المركزية الشديدة، وأن يبقى الفرنسيون على الدواوين التي أنشأها فعلا بونابرت ولم يرم بها إلى خلق النظام البرلماني كما توهم البعض، فبونابرت لم يكن ممن يعجبون به أو يرتضيه لفرنسا، دع عنك مصر. بل رمى بها إلى إنشاء وسايل تمكنه من الاتصال بالزعماء المصريين وتفهم ما يجري في نفوسهم وتفهمهم حقيقة مشروعاته ونواياه حتى لا يبقى مجال لدس الدساسين ولا لسوء الفهم.
7
هذا بعض ما نتصوره عن تطور الحكم الفرنسي في مصر لو استقام للفرنسيين أمرها. وليس هذا التصور مما يخلو من الفايدة التاريخية أو مما لا يقوم على أساس من الواقع. فأكثره مستمد مما كتبه بونابرت
8
وغيره من نواياهم ومما شرعوا في تحقيقه فعلا ومما رأيناه من طرق الحكم الفرنسي في غير مصر من الأقطار الإسلامية، لكن من الزمن لم يتسع لتحقيق ما صورناه. ووجد القواد الثلاثة الذين تعاقبوا على حكم مصر - بونابرت وكليبر ومينو - أنفسهم مضطرين لتوجيه كل جهدهم للتغلب على الأخطار الداخلية والخارجية المحدقة بجيشهم وحكمهم. ولم يكن ما قام به أولهم بونابرت وثالثهم مينو من التجارب الإدارية الأداة الحقيقية لحكم البلاد، ولم تتغير في أيامهم كلها طرق الجباية ولا الضرايب ولا العمال، بل ظلت كما كانت أيام المماليك. ولذلك لم تكن الأعوام الثلاثة التي قضاها الفرنسيون في حكم مصر عهدا سعيدا لسكانها. حقيقة إن المصريين اعتادوا قبل قدومهم الانقلابات السياسية: اعتادها أهل الريف وأهل الحواضر، وعرفها بصفة خاصة أهل القاهرة. وكانت الانقلابات التي عرفوها مما يصحبه الشيء الكثير من اختلال الأمن وضروب العنف والتعسف وإعادة الطلب عليهم فيما أدوه من الضرايب والمغارم. إلا أن هذه الانقلابات كلها كانت على نمط واحد، لا يأتي واحد منها بجديد ولا يصطدم بمألوف لديهم: فمثلا يتغلب «علي الكبير» على خصومه ويحكم البلاد كما حكمها خصومه، ثم يتغلب عليه أبو الذهب ويحكم كما حكم علي، وهكذا دواليك.
ولم يكن للمصريين من نصيب في هذه الانقلابات إلا عمال الإدارة المالية من الأقباط ورؤساء القبايل العربية والشيوخ من العلماء: فالفريق الأول بحكم اضطرار الأمراء جميعا لاستخدامه، يعمل للمنتصرين كما عمل للمنهزمين. ورؤساء العربان بسبب قوتهم الحربية قد يرجحون كفة طايفة من الأمراء على كفة خصومها. والشيوخ العلماء بحكم تصدرهم ونفوذهم في الناس وتحليهم بصفات الفضل والاعتدال، يلجأ إليهم الناس للوساطة في رفع الحيف إذا ضاقوا به ذرعا. وقد يحتكم إليهم المتخاصمون من الأمراء. وكان تدخل الشيوخ عادة لرفع الضيم وإحلال الويام محل الخصام أو للتخفيف من عنف الانقلابات.
أما الحكم الفرنسي فكان انقلابا من نوع لم يعرفه المصريون. إذ لما زال حكم مراد وإبراهيم حل محلهما بونابرت ولم يكن مسلما ولا مملوكا. ومهما قيل في قلة تدين الفرنسيين في تلك فهم غير مسلمين قد تصل بهم الضرورة الحربية أو ما ظنوه الضرورة الحربية إلى انتهاك الحرمات الإسلامية.
كذلك ترك الوالي العثماني مصر عند الإغارة الفرنسية وزال بغيابه مظهر التبعية للسلطان العثماني خليفة المسلمين، وسمع المصريون عن تبعية بلادهم لدولة غربية فرنجية سمى لهم نظامها بأسماء لا تدلهم تجاربهم السياسية على معانيها، فنشر عليهم منشور «من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية».
9
وأرخت لهم الحوادث بشهور غربية من سنين تبدأ «من انتشار الجمهور الفرنساوي».
10
وكانت للفرنسيين طرقهم في مخالطة النساء. وكانت هذه الطرق مما تكرهه الخاصة كرها شديدا. وأدى انتشار العسكر في أنحاء المدن والأقاليم، وتشتت شمل أسرات الأمراء وانطلاق جواريهم عقب تركهم القاهرة، إلى ضروب غير مألوفة من الفساد والرذيلة.
جاء في الجبرتي في حوادث ربيع أول سنة 1214: «وفي يوم الإثنين رابع وعشرينه كان وفاء النيل المبارك ... ووقع في تلك الليلة بالبحر وسواحله من الفواحش والتجاهر بالمعاصي والفسوق ما لا يكيف ولا يوصف، وسلك بعض غوغاء العامة وأسافل العالم ورعاعهم مسالك تسفل الخلاعة ورزالة الرقاعة بدون أن ينكر أحد على أحد من الحكام أو غيرهم، بل كل إنسان يفعل ما تشتهيه نفسه وما يخطر بباله، وإن لم يكن من أمثاله».
إذا كان رب الدار بالدف ضاربا
فشيمة أهل الدار كلهم الرقص
11
وجاء فيه أيضا في ختام حادث سنة 1215: «ومنها تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء، وهو أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسايهم وهن حاسرات الوجوه ... ويركبن الخيول والحمير ويسقنها سوقا عنيفا مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهن وحرافيش العامة، فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش فتدخلن منهم لخضوعهم «أي الفرنسيين» للنساء وبذل الأموال لهن. وكان ذلك التداخل أولا مع بعض حشمة وخشية عار ومبالغة في إخفايه. فلما وقعت الفتنة الأخيرة وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء، والبنات صرن مأسورات عندهم، فزيوهن بزي نسايهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال، فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالمرة وتداخل مع أوليك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر. ولما حل بأهل البلد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في حوز الفرنسيس ومن والاهم، وشدة رغبتهم في النساء وخضوعهم لهن، وموافقة مرادهن وعدم مخالفة هواهن ولو شتمته أو ضربته بتاسومتها فطرحن الحشمة ... واستمان نظراؤهن (لمخالطة الفرنسيين) ... وخطب الكثير منهم بنات الأعيان ... فيظهر حالة العقد الإسلام؛ لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها، وصار مع حكام الأخطاط منهم النساء المسلمات متزييات بزيهن ومشين معهن في الأخطاط للنظر في أمور الرعية ... وتمشي المرأة بنفسها أو معها بعض أترابها على مثل شكلها وأمامها القواسة والخدم، وبأيديهم العصي يفرقون لهن الناس مثلما يمر الحاكم ويأمرن وينهين في الأحكام ... ولما أوفى النيل أذرعه ودخل الماء إلى الخليج وجرت فيه السفن، وقع عند ذلك من تبرج النساء واختلاطهن بالفرنسيس ومصاحبتهم لهن في المراكب، والرقص والغناء والشرب في النهار والليل في الفوانيس والشموع الموقدة، وعليهن الملابس الفاخرة والحلي والجواهر، وصحبتهن آلات الطرب وملاحو السفن يكثرون من المجون والهزل، وخصوصا إذا دبت الحشيشة في رءوسهم وتحكمت في عقولهم، فيصرخون ... ويتجاوبون بمحاكاة ألفاظ الفرنساوية في غنايهم وتقليد كلامهم الشيء الكثير. وأما الجواري السود فإنهن لما علمن برغبة القوم في مطلق الأنثى ذهبوا إليهم أفواجا فرادى وأزواجا، فنططن الحيطان وتسلقن إليهم الطيقان ودلوهم على مخبآت أسيادهن وخبايا أموالهم ومتاعهم وغير ذلك».
12
وفي أيام الاحتلال الفرنسي حرر غير المسلمين من وطنيين وأجانب أنفسهم من قيود مختلفة من المذلة، كان المسلمون يعدونها إذ ذاك شرطا من شروط بقاء الإسلام. وقد عرف بونابرت ما في هذا التحرر من إساءة للشعور الإسلامي، وبين في مذكراته تقديره أهمية هذا الأمر بيانا واضحا، فقال: «لا فايدة في إظهارنا الاحترام العميق للدين الإسلامي إذا كنا نسمح للأقباط والروم والمسيحيين الغربيين بقدر من التحرر يغير من منزلتهم الماضية. وقد أردت أن يكونوا أكثر خضوعا وأكثر احتراما لكل ما يتعلق بالإسلام وبالمسلمين مما كانوا في الماضي».
13
ونجد في الجبرتي تأييدا لصدق هذه الرغبة، فيذكر في حوادث رمضان سنة 1213: «رجوع نصارى الشوام إلى لبس العمايم السود والزرق، وإلى ترك لبس العمايم البيض والشيلان الكشميري الملونة والمشجرات، وذلك بمنع الفرنسيس لهم من ذلك، ونبهوا (أي الفرنسيون) أيضا بالمناداة في أول رمضان بأن نصارى البلد يمشون على عادتهم مع المسلمين أولا، ولا يتجاهرون بالأكل والشرب في الأسواق ولا يشربون الدخان ...»
14
لم تستمر الحالة على ذلك. ولم يكن استمرارها مما يمكن في ظل حكم غربي جمهوري شعاره المساواة والحرية الدينية. وما كانت الاعتبارات السياسية لتستطيع محو هذا الشعار تماما. هذا إلى حاجة الاحتلال الفرنسي لغير المسلمين: لأموالهم ودرايتهم بأحوال البلاد ونظمها وعادات أهلها، ولإمكان الوثوق بهم بفضل اتفاق المنافع.
فعاد غير المسلمين إلى ما عبر عنه الجبرتي بقوله: «ومن الحوادث» ترفع أسافل النصارى من القبط والشوام والأروام واليهود وركوبهم الخيول، وتقلدهم بالسيوف بسبب خدمتهم للفرنسيس، ومشيهم الخيلاء وتجاهرهم بفاحش القول، واستذلالهم المسلمين ...»
15
ولم يكن للحكم الفرنسي في مدته القصيرة، وفي ظروف الحرب والفتن الملابسة له، من المآثر ما يحمل الخاصة والعامة من أهل مصر على الإغضاء عما صحبه من الانقلاب الاجتماعي. فقد كان حكما عسكريا شديدا عنيفا. ولم يكن الإصلاح الذي فكر فيه الفرنسيون، وما استحدثوه من الدواوين وغيرها، والبحث العلمي الذي شرعوا في إقامة قواعده مما يجتذب إليهم المحكومين إلا بعد زمن طويل. ذلك لأن النظم الحكومية التي اعتادها المصريون وغيرهم من أهل الشرق في آخر القرن الثامن عشر كانت ترمي لأغراض ثلاثة أساسية: جمع الأموال المفروضة، والأيدي العاملة اللازمة للأعمال العامة، واستتباب الأمن. وفيما عدا هذه الأمور الثلاثة لا تتدخل الحكومة في أحوال الرعية، بل تدع كل ما لا يتعلق من هذه الأحوال بأغراضها تنظمه الجماعات أو لا تنظمه كما جرت به العادات. وإذا شينا إجمال وصف ما اختص به نظام الحكم المملوكي، قلنا إنه يمتاز بقلة التدخل الحكومي كما نفهمه الآن وبالعنف والتعسف. ويجب ألا يحملنا ما نراه من جنوح الحكام لهذا العنف والتعسف إلى تصور نظم الحكم على غير ما صورناها من ترك الرعية وشأنها في كل ما لم يتعلق بأغراض الحكومة الأساسية. ويجب كذلك ألا يحملنا ما نسمع عنه من الظلم على الظن بأنه لم تكن أمام المحكومين وسايل مختلفة لتجنبه أو لتخفيفه. فإن ارتباك الإدارة الذي نجم عن الانقلابات المتتابعة، وسوء ذمة العمال، وفوضى السجلات، وما إلى ذلك فتح للرعية أبواب الخلاص من الفروض المختلفة سواء منها الشرعية وغير الشرعية.
لا ننتظر إذن أن يرحب المصريون في 1798 بالتدخل الحكومي وبما يصحبه من النظم الدقيقة. ولا أن يعدوها - كما نعدها الآن - ضمانا لحقوقهم؛ لأنهم على العكس كرهوا ضبط الدفاتر، واعتبروه اشتطاطا في الطلب، ولم يروا فيما اتخذته الحكومة من الوسايل لمنع الأمراض، كتخطيط المدن من جديد، ومنع الدفن فيها حيثما اتفق، وكنس الطرقات، وعزل المرضى عن الأصحاء؛ إلا استبدادا لا يطاق وفضولا لا يفهم.
كره المصريون الحكم الفرنسي وقاوموه. ثار أهل القاهرة ثورتين عنيفتين، وقام الفلاحون في الأقاليم كلما أتيحت لهم فرصة. وقد ذكرنا من الأسباب ما يكفي لتفسير هذا الكره دون أن نلجأ إلى تعليله بانتحال تعبيرات من تاريخ الغرب في القرن التاسع عشر. والتاريخ الصحيح لا يجد في الفتن الشعبية بالقاهرة والأقاليم إلا باعثا إيجابيا واحدا، هو الرغبة في العودة لما ألفه الناس. ولا يمكن تسمية ما ألفوه استقلالا، إنما اسمه الوحيد حكم المماليك تحت السيادة العثمانية.
وصفنا الفتن بأنها كانت شعبية. كرهها كبار العلماء دون أن يحبوا الحكم الفرنسي، وحاولوا أن يقوا الناس أذى بطش الفرنسيين جهد استطاعتهم. فكان موقفهم في أيام الاحتلال الفرنسي موقفهم في الانقلابات الماضية، إلا أن منهم ومن كبار الخاصة من عمل على التخلص من الحكم الفرنسي، وإعادة الحالة التي سبقته. يذكر التاريخ مثلا للسيد عمر مكرم الذي ترك مصر عند الاحتلال الفرنسي، واشترك في ثورة القاهرة الثانية عند قدوم الجيش العثماني لتسلم البلاد من الفرنسيين بحسب اتفاق العريش. وكان للسيد عمر فيما بعد نصيب في قيام العامة على خورشيد باشا الوالي العثماني، وتنصيب محمد علي واليا على مصر. وجرى له أثناء هذه الحوادث حديث مع مندوب خورشيد باشا ينص على حق الرعية في مقاومة الظلم.
16
ولكن لا يمكن وصف جهود السيد عمر لإخراج الفرنسيين من مصر وتسليمها للسلطان سعيا لاستقلال مصر. والظاهر أن السيد عمر كان على جانب من علو الهمة وقوة الشخصية بعثه على العمل للنفوذ السياسي. وقد رأى عاقبة أطماعه لما حاول أن يتحكم في محمد علي كما تحكم في خورشيد من قبل. فذاق النفي عن القاهرة وانتهاء حياته السياسية.
17
وكان السيد أحمد المحروقي ممن ظهر أيضا في فتنة القاهرة الثانية، ولكنه لم يتصف بصفات الزعامة التي ظهرت في السيد عمر مكرم مثلا. بل كان رجلا من رجال المال من نمط فوكيه ومن يماثله في أيام الملكية الفرنسية. وأصدق وصف له قول البرديسي له: «مثلك من يخدم الملوك».
18
وظهر في هذه الفتنة أيضا السيد السادات. وكان من أكثر العلماء نفورا من الفرنسيين وما أحدثوه، ومن أشدهم سعيا لإعادة الحكم العثماني. ثم تبين له خطؤه عند فرار الجيش العثماني بعد هزيمته في واقعة المرج أو هليوبوليس، وترك رجال الدولة العثمانية أهل القاهرة وشأنهم مع الفرنسيين بعد أن أثاروهم وحمسوهم. فكتب لعثمان كتخدا الدولة كتابا جاء فيه: «ألزمتم الغني والفقير والكبير والصغير إطعام عسكركم الذي أوقع بالمؤمنين الذل وبلغ في النهب غاية الغايات، فكان جهادكم في أماكن الموبقات والملاهي ... أخفتم أهل البلد بعد أمنها، وأشعلتم نار الفتنة ثم فررتم فرار الفيران من السنور».
19
وتبين لأهل القاهرة بعد هذه الفتنة - كما سيتبين لهم بعد جلاء الجيش الفرنسي - أنهم كانوا مخدوعين في قيامهم على الحكم الفرنسي من أجل العثمانيين، وأنهم كانوا في فتنتهم ضحية «الدجاجلة» كما سماهم الجبرتي الذي اختص منهم رجلا مغربيا لا ناقة له فيها ولا جمل. يدعو للجهاد ويحرص على الابتعاد عن مواطن القتال، يهدد من يتكلم في الصلح برمي العنق ولا يأكل إلا الدجاج.
20 ••• «وإذن فلا يرى التاريخ الصحيح في موقف العامة وزعمايها وأهل الرأي فيها أثرا لفكرة الاستقلال الوطني. ولا يسجل إلا لمصري واحد من أهل هذا العصر فضل اعتبار الاحتلال الفرنسي لا فترة نحس يرجى زوالها وعود ما سبقها؛ بل بدء حياة جديدة لمصر والمصريين مهدت لها الحملة الفرنسية بقطع التبعية العثمانية وهدم قوة المماليك. ذلك المصري هو المعلم يعقوب حنا:
21
موضوع هذه الرسالة.
لا أحب أن أغلو فأزعم أن يعقوب فهم تماما كل الاحتمالات التي انطوى عليها هدم النظم القايمة في مصر وحكم أمة غريبة لها، أو أنه تحول في هذه الأشهر القليلة التي قضاها مخالطا للفرنسيين من جاب من جباة الأموال؛ نشأ ودرج في بيت من بيوت الأمراء المماليك في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، إلى داع من دعاة الحركات الوطنية التي يعرفها الغرب في القرن التاسع عشر. بل أجد يعقوب يحتفظ - حتى بعد مخالطة الفرنسيين - ببعض صفات الجباة وعمل الإدارة المالية من أبناء طايفته في ذلك الوقت.
22
ولكنه رغم ذلك تأثر تأثرا بينا باتصاله بالفرنسيين وبالغرب، وكون رأيا خاصا عن حكمهم لمصر وما يمكن أن يؤدي إليه ولا يشاركه في هذا الرأي الزعماء من أبناء طايفته، وقد خدموا الاحتلال الفرنسي كما خدموا الانقلابات السابقة، ولا أهل الرأي من مواطنيه المسلمين، وقد شرحنا موقفهم من الحكم الفرنسي.
يرد ذكر يعقوب في تاريخ الجبرتي في أكثر من موضع. ويرد ذكره في كل هذه المواضع مقرونا بأعمال تمنع القارئ من أن يظن به خيرا وتمثله في صورة المتفاني في خدمة الاحتلال الفرنسي.
يذكر الجبرتي عنه تأييده الحكم الفرنسي أثناء ثورة القاهرة الثانية، بينما الرؤساء الأقباط الآخرون بمن فيهم أكبرهم جميعا جرجس جوهري يدارون الثوار ويمدونهم بالمال واللوازم صيانة لأرواحهم لا عطفا على حركتهم.
23 «أما يعقوب - كما سجل الجبرتي في حوادث شوال سنة 1214 - فإنه كرنك في داره بالدرب الواسع جهة الرويعي، واستعد استعدادا كبيرا بالعسكر والسلاح، وتحصن بقلعته التي كان شيدها بعد الواقعة الأولى (أي ثورة القاهرة الأولى أيام بونابرت) فكان معظم حرب حسن بك الجداوي معه».
24
ويرد ذكره أيضا في وصف ما حاق بأهل القاهرة من الشدة في جمع الغرامة المالية التي ضربها عليهم كليبر بعد إخماده الفتنة، فيقول الجبرتي في حوادث ذي الحجة سنة 1214: «وكل كليبر يعقوب يفعل في المسلمين ما يشاء».
25
زاد نفوذ يعقوب في الأيام التالية لفشل الثورة في القاهرة، وزاد في تلك الأيام التالية لفشل الثورة والسابقة لقتل كليبر. زهو الأقباط وخيلاؤهم، أو على الأقل زهو من كان يعمل للحكومة الفرنسية منهم. وترى امتعاض المسلمين ظاهرا في الجبرتي في أكثر من موضع: «منعوا المسلمين من ركوب البغال سوى خمسة أنفار وهم: الشرقاوي والمهدي والفيومي والأمير وابن محرم، والنصارى المترجمين وخلافهم لا حرج عليهم، وفي كل وقت».
26
وأيضا، «وتطاولت النصارى من القبط والشوام على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم أغراضهم، وأظهروا حقدهم، ولم يبقوا للصلح مكانا، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين».
27
وبين الجبرتي أن تعسف الفرنسيين في الطلب كان بإرشاد القبطة ... «لأنهم هم الذين تقلدوا المناصب الجليلة، وتقاسموا الأقاليم، والتزموا لهم بجمع الأموال، ونزل كل كبير منهم إلى أقاليم وأقام بسرة الإقليم مثل الأمير الكبير ومعه عدة من العساكر الفرنسية، وهو في أبهة عظيمة، وصحبته الكتبة والصيارف والأتباع والأجناد من الغز «أي المماليك» البطلة وغيرهم، والخيام والخدم والفراشون والطباخون والحجاب، وتقاد بين يديه الجنايب والبغال والرهوانات والخيول المسومة والقواسة والمقدمون وبأيديهم الحراب المفضضة والمذهبة والأسلحة الكاملة والجمال الحاملة، ويرسل إلى ولايات الأقاليم من جهة المستوفين من القبط أيضا بمنزلة الكشاف ومعهم العسكر من الفرنسيين والطوايف والجاويشية، والصرافين والمقدمين على الشرح المذكور، فينزلون على البلاد والقرى، ويطلبون المال والكلف الشاقة بالعسف ويؤجلونهم بالساعات، فإذا مضت ولم يوفوهم المطلوب حل بهم ما حل من الحرق والنهب والسلب، وخصوصا إذا فر مشايخ البلدة من خوفهم وعدم قدرتهم وإلا قبضوا عليهم، وضربوهم بالمقارع والكسارات على مفاصلهم وركبهم، وسحبوهم معهم في الحبال، وأذاقوهم أنواع النكال، وخاف من بقي فصانعوهم وأتباعهم بالبراطيل بما يستميلون قلوبهم به، وما يستجلبونه لهم من المنافع والمظالم، وأجهدوا أنفسهم في التشفي من بعضهم وما يوحيه الحقد والتحاسد الكامن في قلوبهم، إلى غير ذلك مما يتعذر ضبطه، وما كنا بمهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون».
28
ويصف الجبرتي اهتمام يعقوب بتحصين القاهرة عند اقتراب العثمانيين منها للمرة الثانية، في الأيام الأخيرة من العهد الفرنسي. فيقول في حوادث المحرم سنة 1216: «في عشرينه توكل رجل قبطي يدعى عبد الله من طرف يعقوب يجمع طايفة الناس للعمل في المتاريس، فتعدى على بعض الأعيان وأنزلهم من على دوابهم، وسب وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسال دمه، فتشكى الناس من ذلك القبطي وأنهوا شكواهم إلى بليار قايمقام فأمر بالقبض على ذلك القبطي وحبسه بالقلعة. ثم فردوا «كذا» على كل حارة رجلين يأتي بهما شيخ الحارة، وتدفع لهما أجرة من شيخ الحارة».
29 «ولم يكتف يعقوب بكل هذا، بل نظم جيشا من الأقباط يخدم في صفوف الفرنسيين. وكان هذا التنظيم على نفقته الخاصة
30
فقد كان يعقوب صاحب مال؛ لأنه لم ينس أن يجمع لنفسه عندما جمع للفرنسيين. وقلده كليبر قيادة هذا الجيش ملقبا إياه بلقب أغا .
31
وفي عهد قيادة مينو رقي يعقوب جنرالا، ومنح براءة هذا اللقب».
32
وقد وصف الجبرتي هذا الجيش الوطني - نلاحظ أنه أول جيش كون من أبناء البلاد بعد زوال الفراعنة - في كلامه عن حوادث المحرم سنة 1215: «وفيه طلبوا عسكرا من القبط، فجمعوا منهم طايفة، وزيوهم بزيهم، وقيدوا بهم من يعلمهم كيفية حربهم ويدربهم على ذلك. وأرسلوا إلى الصعيد فجمعوا من شبانهم نحو الألفين وأحضروهم إلى مصر وأضافوهم إلى العسكر».
33
ثم قال في كلام عام عن السنة كلها: «ومن حوادث هذه السنة أن يعقوب لما تظاهر مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكر القبط، جمع شبان القبط، وحلق لحاهم (وإن احتفظ هو بلحيته) وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية، مميزين عنهم بقبع يلبسونه على رءوسهم، مشابه لشكل البرنيطة وعليها قطعة فروة سوداء من جلد الغنم في غاية البشاعة على ما يضاف إليها من قبح صورهم وسواد أجسامهم، وزفارة أبدانهم، وصيرهم عسكره وعزوته، وجمعهم من أقصى الصعيد، وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التي هو ساكن فيها خلف الجامع الأحمر، وبنى له قلعة وسورها بسور عظيم وأبراج وباب كبير يحيط به بدنات عظام، وكذلك بنى أبراجا في ظاهر الحارة جهة بركة الأزبكية وفي جميع السور المحيط والأبراج طيقان للمدافع وبنادق الرصاص على هيية سور مصر الذي رمه الفرنساوية، ورتب على باب القلعة الخارج والداخل عدة من العسكر الملازمين للوقوف ليلا ونهارا وبأيديهم البنادق على طريقة الفرنساوية».
34
يرد ذكر يعقوب في كل هذه المواضع فلا يمكن لقاري الجبرتي أن يتصوره إلا كأحد أوليك المارقين الذين يظهرون في عصور الحكم الأجنبي، ويكونون خلالها حربا على أممهم. ولكن القاري لا يجد في الجبرتي ولا في غيره أن يعقوب في سنة 1801 لما انتهى الاحتلال الفرنسي، هاجر وتبع الجيش الفرنسي إلى فرنسا لتحقيق مشروع خطير هو الحصول على اعتراف الدول باستقلال مصر.
عثرت على الأوراق الخاصة بهذا في سجلات وزارتي الخارجية الإنجليزية والفرنسية، بعد أن كدت أطرح الأمل في العثور على تفكير مصري أو غير مصري في حل المسألة المصرية بالاعتراف باستقلال مصر .
35
وقد أشرت إلى هذه الأوراق فيما نشرت في تاريخ هذا العهد من تاريخنا.
36
ونشر المسيو دون ترجمة وثيقة ونص أخرى من هذه الوثايق في كتاب ضمن المجموعة التاريخية التي تنشرها الجمعية الجغرافية الملكية بفضل حضرة صاحب الجلالة الملك. وقد مهد المسيو دون للوثيقتين بمقدمة تحليلية لهما.
37
وبدأت بعد العثور على هذه الأوراق في تكوين رأي آخر في يعقوب وفي طبيعة علاقاته بالفرنسيين. «خدمات يعقوب للحكم الفرنسي من نوعين: خدمات من نوع ما كان يقوم به للفرنسيين جرجس جوهري وملطي وأبو طاقية وغيرهم من كبار الأقباط، أساسها السعي للنفع الشخصي من جهة، والخلاص مما كانوا فيه من امتهان لا يرفعهم من حضيضه ما ملكوه من مال وجاه، ولا يفارقهم مهما زادت حاجة الحكام إليهم وخدمات من نوع آخر أساسها التمهيد لمستقبل البلاد السياسي بالتعضيد المؤقت للحكم الغربي».
ومن حقق النظر في أحوال الشعوب الشرقية الخاضعة لحكم السلطان أثناء القرن التاسع عشر، يجد أن الطوايف غير الإسلامية منها نظرت في أول الأمر للتدخل الغربي في شيونها بالعين التي نظر بها إليه يعقوب في آخر القرن الثامن عشر. «أول ما في تأييد يعقوب للتدخل الغربي تخليص وطنه من حكم لا هو عثماني، ولا هو مملوكي، وإنما هو مزيج من مساوي الفوضى والعنف والإسراف، ولا خير فيه للمحكومين ولا للحاكمين إذا اعتبرناهم دولة قايمة مستمرة. فرأى يعقوب أن أي نوع من أنواع الحكم لا يمكن أن يكون أسوأ مما خضعت له مصر قبل قدوم بونابرت.
وثاني ما في تأييده للاحتلال الفرنسي أنه أتاح فرصة الاتصال بالغرب والتعلم منه. ولا يقل عن هذا شأنا - في نظره - ما أتاحه هذا الاحتلال من إنشاء قوة حربية مصرية (قبطية في ذلك العهد) مدربة على النظم العسكرية الغربية «ونحن نسلم بأن هذه القوة كانت أداة من أدوات تثبيت الاحتلال، وبأنه لولا هذا ما سمحت السلطات الفرنسية بإنشايها وتسليحها وتدريبها. غير أنه يلزمنا أن نذكر أيضا أن الدلايل كلها كانت تدل على أن هذا الاحتلال لن يدوم»، وأن القايد كليبر نفسه، الذي أذن بإنشاء القوة القبطية، كان لا يرى البقاء في مصر، وأنه لهذا حاول - كما نعلم - الجلاء عنها بعقد اتفاق العريش في يناير 1800؛ ذلك الاتفاق الذي كان له بعض العذر في نقضه.
38
وسنبين في موضع آخر
39
من هذه الرسالة أن بعض أصدقاء يعقوب من الفرنسيين اهتم بمستقبل القوة الحربية القبطية أكثر مما اهتم بحاضرها، وأنهم كانوا يحبون أن يروها على حال من البأس تجعلها العنصر المرجح في مستقبل مصر بعد جلاء الفرنسيين عنها.
كان وجود الفرقة القبطية إذن أول شرط أساسي يمكن رجلا من أفراد الأمة المصرية يتبعه جند من أهل الفلاحة والصناعة، من أن يكون له أثر في أحوال هذه الأمة إذا تركها الفرنسيون، وعادت للعثمانيين والمماليك يتنازعونها ويعيثون فيها فسادا. على الرغم من أنه لا ينتمي لأهل السيف من المماليك والعثمانيين، وبغير هذه القوة يبقى المصريون حيثما كانوا بالأمس: الصبر على مضض، أو الالتجاء لوساطة المشايخ، أو الهياج الشعبي الذي لا يؤدي لتغيير جوهري، والذي يدفعون هم ثمنه دون سواهم. وهنا الفرق الأكبر بين يعقوب وعمر مكرم، يعقوب يرمي إلى الاعتماد على القوة المدربة، والسيد عمر يعتمد على الهياج الشعبي الذي تسهل إثارته ولا يسهل كبح جماحه والذي قد يصل سريعا لتحقيق أغراض حاسمة، ولكنه لا يصلح قاعدة للعمل السياسي الدايم المثمر. فكما أن العامة سريعة الهياج في أوقات الخلل واضطراب الحكم، فهي أيضا سريعة القنوط خصوصا إذا اصطدمت بجند مسلحين حتى ولو كان أوليك الجند من نوع ما كان في مصر في أوايل القرن التاسع عشر من ترك وألبانيين ومن ماثلهم. وقد رأينا ما كان من أمر السيد عمر لما وجد أمامه محمد علي لا خورشيد. هذا الفرق بين الأداة التي اختارها يعقوب وتلك التي اختارها السيد عمر، ليس في الواقع إلا مظهرا لفروق أعمق. إذ ما حاجة هذا السيد نقيب الأشراف إلى جيش، والرجل لا يتصور مصر إلا خاضعة لحكم المماليك تحت سيادة السلطان، ولا يرمي إلى أبعد من أن يملي إرادته على القايمين بالأمر فيها مدافعا عن أفراد الرعية كلما زاد الفساد؟ وهو لهذا يكفيه قيام أهل القاهرة واجتماع كلمة العلماء، «أما يعقوب فله شأن آخر؛ إذ إنه لا يريد عودة المماليك والعثمانيين، وإنما يعمل على أن تكون لفية من المصريين يد في تقرير مصير البلاد بدلا من أن يبقى حظهم كما كان في الحوادث الماضية مقصورا على التفرج أو الاشتراك في نهب المهزومين». ذكر الجبرتي في حوادث المحرم سنة 1218 في كلامه عن اشتباك الألبانيين بأتراك الوالي العثماني خسرو - ذلك الاشتباك الذي انتهى آخر الأمر بولاية محمد علي - ذكر أن الألبانيين كانوا يقولون للعامة من أهل القاهرة: «نحن مع بعضنا وأنتم رعية فلا علاقة لكم بنا.»
40
أنتم رعية، تخضعون لمن ينتصر منا. هذا كل ما لكم!
أراد يعقوب أن يكون الأمر غير ذلك، وعول أن تكون القوة الحربية المصرية الجديدة مدربة على النظم الغربية. فكان سباقا إلى تفهم الدرس الذي ألقاه انتصار الفرنسيين على المماليك، أو قل إلى إدراك ما أدركه محمد علي بعد قليل من أن سر انتصار الغربيين في جودة نظمهم وبخاصة نظمهم العسكرية. فسرق البرق من الآلهة وكان له ما كان.
كيف كان للاتصال بالفرنسيين هذا الأثر كله في نفس فرد واحد من أفراد الأمة في آخر القرن الثامن عشر؟ ذلك لأن يعقوب كان على استعداد لتعلم دروس الحملة الفرنسية. وقد ثبت من القليل الذي وصل إلى علمنا من أخباره قبل 1798، أن يعقوب لم يكن كغيره من المبرزين من أبناء طايفته في ذلك العهد، وأن معاصريه منهم أحسوا باختلافه عنهم، وأثبتوا عليه شذوذه عن مألوفهم، ورواه عنهم المعمرون لصاحب تاريخ الأمة القبطية يعقوب بك نخلة رفيله المولود في غضون سنة 1847، والمتوفى في إبريل 1905.
41
قال صاحب هذا التاريخ: «يظهر أن يعقوب لم يحترف بحرفة الكتابة في الدواوين مثل باقي عظماء أبناء أمته، بل كان من أصحاب الأملاك والتجارة»،
42
وأنه سار في مسلكه إزاء الحكم الفرنسي «في خطة تخالف ما كان عليه أبناء جنسه من حيث الهدوء والسكينة والصبر والاحتمال وفداء أرواحهم وأعراضهم في بعض الأحوال ببذل المال والعطايا، فإنه فضلا عن مخالفته لهم في الزي والحركات، اتخذ له امرأة من غير جنسه بطريقة غير شرعية،
43
على أن رجال الدين - ولا سيما البطريرك - لم يكونوا راضين عن تصرفاته وأحواله»، وقد سمع صاحب التاريخ من بعض شيوخ الأقباط المسنين أن البطريرك «نصحه المرات العديدة بالعدول عن هذه الخطة، وأن يعيش كساير إخوانه فلم يقبل وعاوده بالنصيحة مرة أخرى، فجاوبه جوابا عنيفا فسخط عليه. وسمع أيضا ما كان من تجرؤ يعقوب على الدخول في الكنيسة مرة راكبا جواده ورافعا سلاحه، وطلبه أن يناول السر المقدس وهو على ظهر جواده معتذرا عن هذه الجسارة بأن من كان جنديا مثله يلزم أن يكون على الدوام في أهبة واستعداد».
44 «رفض يعقوب إذن أن يلتزم الهدوء والصبر والاحتمال وفداء النفس والعرض ببذل المال، وأحب أن يكون رجل حرب». وقد ثبت للتاريخ ميله أيام شبابه لأعمال القتال والفروسية على طريقة المماليك، واشترك أيام أن كان يدير التزام سليمان بك الأغا في الصعيد في بعض حروب المماليك ضد جنود القبطان باشا حسن الذي نزل بمصر في 1786 لتثبيت الحكم العثماني. واهتم بدراسة بعض تلك الحروب، وأتقن أساليب المماليك في ركوب الخيل واستعمال السيف.
45 «ثم جاء الفرنسيون وعين لمرافقة الجنرال ديسيه في فتح الصعيد، وهنا أيضا رفض يعقوب أن يقصر همه على ما عين له من تدبير المال والغذاء ونقل الرسايل، بل راقب سير الحرب، وحارب مرة من المرات تحت عين ديسيه نفسه على رأس طايفة من الفرسان الفرنسيين جماعة من المماليك، وأبلى بلاء حسنا؛ حمل قايده على تقليده سيفا»
46
ولم يكن المعلوم أن الأقباط يقلدون السيوف بل يكسون الفراء أو ينفخون بالمال.
وتعلق يعقوب بديسيه - السلطان العادل كما سماه أهل الصعيد - تعلقا خالصا،
47
وكان لهذا الاتصال أثر كبير في تكوين يعقوب جديد. قال بليار - كان من ضباط ديسيه في حملة الصعيد - يصف فترة من الفترات التي انتهزها القايد لإراحة عسكره: «أقمنا في أسيوط، وكنا نجتمع كل مساء في منزل ديسيه، وكانت أحاديثنا تدور حول موضوعات شتى. وكان كل منا يدلي برأي أو آراء في السلم والحرب وفي النظم والتواريخ».
48
ولا بد أن يعقوب استمع لكل ما كان يدور، وفهم القدر الذي استطاع أن يفهمه، ولا بد أن ما استطاع أن يسمع أو يفهم أثار شتى الأفكار في نفسه، وكشف له عن عالم من المعاني غير الذي نشأ فيه وعرفه. ويعجز يعقوب عن الإفصاح عما يجول في خاطره، ويقيض الله له رجلا من أغرب أهل عصره يتولى عنه التعبير. ذلك الرجل هو الفارس ثيودور لاسكاريس دي فنتميل. •••
رددت ذكر لاسكاريس هذا كتب الرحلات، وأذاع أمره لامارتين في قصة «فتح الله الصغير بين بدو الصحراء»،
49
واقترن اسمه أثناء إقامته بلبنان باسم سيدة إنجليزية نبيلة لا تقل عنه غرابة أطوار، وهي ليدي هستر ستانهوب حفيدة الوزير الكبير شاتهام، وربة بيت خالها وليم بت مدة وزارته. تركت إنجلترا وقضت باقي أيامها في لبنان. ولا يعرف التاريخ لم كان ذلك، أكانت هجرة نفس أبية إلى حيث الحرية التامة؟ أم كان ذلك لمس ظهر فيها شذوذا وتجلى في جده، وخالها عظمة وزعامة؟ ومهما يكن من الأمر فقد تركها التاريخ حتى الآن لأهل القصص.
50
الفارس لاسكاريس
نقلا عن مجموعة الرسوم التي عملها الرسام “Dutertre”
للكثير من رجال الحملة الفرنسية، وتوجد نسخة من هذه المجموعة في كتب الأمير حلمي بمكتبة الجامعة المصرية، وهناك بحث مفصل في ديترتر، ورسومه في مذكرات “E. De Villiers du Terrage”
طبعة سنة 1899، ص355-360.
وكاد يترك لاسكاريس أيضا للمصير نفسه، وقد تمنى باريس لو تولى بيير بنوا كتابة سيرته كما يكتب بنوا السير.
51
ولكن أنقذه للتاريخ محقق فاضل هو المسيو أوريان، فكتب فصلا ممتعا تتبع فيه هذه الحياة الضالة في البر والبحر، في الغرب والشرق،
52
وليس هذا بالأمر اليسير.
ثيودور لاسكاريس من بيت إيطالي نبيل يتصل قديما بقياصرة بيزنطة. دخل هو وأخوه في سلك فرسان القديس يوحنا الذين كانوا يحكمون جزر مالطة إلى أن انتزعها بونابرت منهم في طريقه إلى مصر في 1798. درس في صباه الموسيقى وفنون العمارة، وقرأ كل ما استطاع أن يقرأ وغذى بهذه القراءات خيالا قويا، وكان ذا نفس أبية تواقة للعلا، يريد أن يخلد اسما خليقا بسليل القياصرة، ولكن حظه كان الخمول والفقر والتنقل من مكان لآخر. وانتهى به المطاف إلى مصر يكسب قوته بتعليم الفرنسية لإسماعيل بن محمد علي فاتح السودان، ثم الموت في القاهرة في سنة 1817 في ظروف مريبة.
53
وقدر له أن يموت كما بدأ وكما وصف نفسه «صاحب مشروعات».
تحقق الكثير من هذه المشروعات فيما بعد على أيدي أفراد وحكومات. ولكنها في أيام صاحبها كانت سابقة لأوانها. وكان شذوذ لاسكاريس في أطواره - شذوذ ظهر في أخيه جنونا - وتعدد المشروعات وتنوعها مما لا يبعث على الثقة فيه. ومما يعزينا أنه وجد بعض السلوى أو السعادة في الخلو إلى نفسه وإلى مشروعاته. وقد جاء في كلام له: «كل إنسان في هذا العالم يسلك الطريق الذي هيأه له القدر. واحد من الناس يفتح الممالك ويدوخ البلدان، وآخر يصنع النعال. وبعض الناس ينشيون الدول ويشرعون لها الشرايع، والبعض منتهى جهدهم أن يكونوا آباء أطفال ... أما أنا، فأحسن صنع المشروعات، أخرج نفسي من عالم الحس وأعمل في مشروعاتي، وأترك لخيالي التغلب على ما يعترضها من العقبات. ما أجمل الخيال! أجد فيه ما أظنه السعادة».
54
رجل هذه حاله تضيق به مالطة ويضيق ذرعا بالفرسان. تركها وتبع بونابرت إلى مصر، حيث تقلد بعض المناصب الإدارية. تعلم العربية وتزوج من قوقازية من جواري أحد الأمراء، وأطلق لخياله العنان في هذا الوادي التاريخي الرحيب.
وفي مصر فكر وكتب في طرق حكمها، ودرس فكرة إقامة قناطر حاجزة عند تفرع النيل في رأس الدلتا. وعندها يقيم عاصمة البلاد تحت اسم مينوبوليس إجلالا للجنرال مينو، يحميها الماء من جوانب ثلاثة، ويجتذب إليها خيرات الوادي من منابع النيل.
55
هذا الاجتذاب والتقدم نحو منابع النيل من مشروعات لاسكاريس العزيزة. ألا يمكن أن نجد مغزى خاصا في أن إسماعيل فاتح السودان كان تلميذا للاسكاريس قبيل الفتح؟ وقد ثبت أن المعلم صرف في بث هذه الأفكار وما يماثلها في تلميذه أكثر مما صرف في تعليمه تصريف الأفعال.
ورأى لاسكاريس أن مصر يجب أن تستقل وأنها خليقة بالاستقلال بحكم موقعها وتاريخها ومواردها. ورأى أن الحكومة الفرنسية يجب أن تعمل على تحقيق استقلال مصر إذا ما قررت الجلاء عنها بأن تقوي الفرقة المصرية تحت قيادة يعقوب، وأن تعدها بحيث تكون العنصر المرجح في تقاتل العثمانيين والمماليك على تملك هذه البلاد. وأشار أيضا بأن يترك الفرنسيون إذا ما اضطروا للجلاء ذخيرة حربية، وقوة فرنسية يظهرون أنها عاصية ترفض الانسحاب مع بقية الجيش، ويدعونها تنسحب نحو الأقاليم النوبية تفتحها وتهبط منها على مصر عند اللزوم.
56
وقد اجتذب لاسكاريس إلى مشروعه هذا فرنسيين آخرين سجل التاريخ من أسمايهم مارسل المستشرق، والضابط ديبا حاكم القلعة. واتصل بالمصري يعقوب وجعل فرقته القبطية قاعدة الاستقلال.
57
وحاول أن يقنع مينو بكل هذا ولكنه لم يقتنع. إذ حالت دون اقتناعه قلة ثقته بالفارس والأقباط عامة ويعقوب خاصة، وسمح لنفسه في أكثر من مرة بمداعبة لاسكاريس والسخرية منه.
كتب له: «هل تذكر أيها المواطن قصة ابن كريبيون؟ أراد الابن أن ينشي دينا جديدا، فرفع الأب صليبا وقال: انظر يا بني ماذا فعلوا به».
58
ولكن مينو مضى في الاستفادة من لاسكاريس ويعقوب: الأول لاتصاله بالمصريين والثاني لمهارته المالية وجنده القبطي.
59 •••
وجاء وقت الجلاء وسلمت الحامية الفرنسية المرابطة في القاهرة تحت قيادة الجنرال بليار المدينة للإنجليز والعثمانيين. وكان من شروط التسليم أن يكون لأي مصري أراد حق الخروج مع الجيش الفرنسي دون أن يتعرض أحد ممن تركهم من أهله لأذى في النفس أو المال، وألا يؤذى أحد ممن خدم السلطات الفرنسية وآثر أن يبقى في مصر بعد زوال أمرها.
60
وأرسل إبراهيم بك أمانا للأقباط الذين ينطبق عليهم هذا الشرط الثاني، فخرجوا إليه وسلموا وعادوا إلى دورهم.
61
أما يعقوب فقد صمم على الرحيل مع الفرنسيين، والظاهر أنه حاول أن يستصحب عددا كبيرا من شبان القبط الذين كانوا تحت قيادته. فقد جاء في الجبرتي في وقايع صفر 1216: «أما يعقوب فإنه خرج بمتاعه وعازقه (كذا) وعدى إلى الروضة ، وكذلك جمع إليه عسكر القبط، وهرب الكثير منهم واختفى واجتمعت نساؤهم وأهلهم وذهبوا إلى قايمقام (أي بليار)، وبكوا وولولوا وراجعوه في إبقايهم عند عيالهم وأولادهم، فإنهم فقراء وأصحاب مصانع ما بين نجار وبناء وصايغ وغير ذلك، فوعدهم بأن يرسل إلى يعقوب أن لا يقهر منهم من لا يريد الذهاب والسفر معه».
62 «ولم يخرج معه إلا أهله، وزوجته مريم نعمة الله وابنته مريم وأخوه حنين وابنا أخته ولقبهما سيداروس.
63
وكان في الخارجين بعض الأقباط وجماعة من المترجمين، وبعض مسلمين ممن خاف على نفسه كعبد العال الأغا الذي طلق زوجته وباع متاعه وفراشه وما ثقل عليه حمله. وخرج أيضا كثير من نصارى الشوام والأروام مثل يبنى وبرطلمى (فرط الرمان) وغيرهما».
64
لم يبق يعقوب بمصر يعمل في تقرير مصيرها كما حسب. وليس أمامنا إلا أن نعلل ذلك بأسباب لا بأس بها، أولها ما رآه من تشتت الجند القبطي وعزم بناييهم ونجاريهم على ترك الجندية والعودة لعيالهم. ثانيها أن القيادة الفرنسية لم تعد شييا ما لمستقبل الفرقة القبطية، ولا لمستقبل النفوذ الفرنسي في مصر. بل كان كل همها الانسحاب وتنظيم هذا الانسحاب. وربما كان سبب هذا الإهمال ما حدث من تقسيم الجيش الفرنسي إلى قسمين، قسم يدافع عن القاهرة تحت قيادة بليار وآخر عن الإسكندرية تحت القايد العام مينو. ثم أصبح الاتصال بين القسمين صعبا. وسلم بليار القاهرة في اتفاق عقده مع الأعداء، وأعقبه تسليم مينو.
65
أما ثالث الأسباب فهو الهجرة لتحقيق مشروع خطير: السعي لدى الحكومات الأوروبية لتحقيق استقلال مصر، ولا أظن أن خروج يعقوب كان للخلاص بنفسه، فمثله ممن يمكنهم تصفية الحساب الماضي مع العثمانيين المنتصرين. وقد حاول القبطان باشا حسين أن يغريه بالبقاء في مصر، ووعده ومناه
66
ولكنه رفض وآثر الرحيل للعمل في ميدان جديد. •••
ركب يعقوب السفينة الحربية الإنجليزية بلاس وربانها إدموندس. وكان على ظهرها أيضا الفارس لاسكاريس. وقد عرف إدموندس قدر يعقوب وأنه زعيم في عشيرته، وأن الفرنسيين لقبوه «جنرالا» حرصا على نيل تأييده فأحسن لقاءه، مما دعا يعقوب للتحدث معه في شيون مصر، وقال له إنه يعتقد أن حكومة العثمانيين في مصر أسوأ أنواع الحكم، وأنه لم يؤيد الاحتلال الفرنسي إلا لتقليل ما حاق بمواطنيه من أذى، وأنه صدق ما ادعاه الفرنسيون من أن دولتهم أقوى الدول الأوروبية، ولم يكن يدرك إذ ذاك مدى القوة البحرية الإنجليزية. ثم قال إنه يرجو أن يسعى لدى الحكومات الأوروبية لتحقيق استقلال بلاده، وأن هجرته لأوروبا قد تنفع في هذا السبيل، على أنه يعلم أن إدراك الغاية مستحيل بلا موافقة الحكومة الإنجليزية.
67
هذا مجمل ما قرره يعقوب لإدموندس، وزاد عليه لاسكاريس، وكان يترجم بين الرجلين أن يعقوب على رأس وفد مصري اختاره أعيانها ليفاوض الحكومات في أمر الاستقلال.
بعد هذا الحديث اشتد المرض على يعقوب، وتوفي في السادس عشر من أغسطس سنة 1801، والسفينة على مقربة من سواحل الأناضول الجنوبية الغربية، وقد راعى إدموندس مقامه ورجاء أهله فلم يلق جثته في البحر بل وضعها في دن من «الروم» حفظها حتى مارسيليا حيث دفنت. وفي إحدى مقابرها يرقد الآن الجنرال يعقوب في قبر معروف.
68
ولم يكن موته نهاية الأمر، فقد قرر لاسكاريس أن الوفد باق رغم موت رييسه، وأعد مذكرة مفصلة بالموضوعات التي تحدث فيها يعقوب مع إدموندس، وسلمها في مارسيليا لذلك الإنجليزي لتبليغها لحكومته. فتعهد إدموندس بذلك وبالمحافظة على سر هذه الأحاديث عن نفسه وعن حكومته.
ما رأي إدموندس في كل هذا؟ قال: أولا إنه لا يملك تحديد مدى التفويض الذي تكلم عنه لاسكاريس، وثانيا إنه لا يدري إن كان عضوا في الوفد أو سكرتيرا مترجما له، وإنه على كل حال لم يستطع أن يصفه إلا بأنه رجل «خيالي».
قام إدموندس بما وعد به فأرسل لحكومته مذكرة استقلال مصر التي أعدها لاسكاريس.
69
بدأ الكاتب بإهداء التحية للورد الأول للبحرية الإنجليزي (الموجه إليه الخطاب)، وتذكيره بأن اهتمامه بما تضمنته المذكرة فيه نفع دولته، وأن ما قد يقوم به لتحقيق استقلال مصر أجمل ما يجدر بلورد إنجليزي أن يسعى له. ثم أطنب في وصف عظم هذا المشروع - تحقيق استقلال مصر - وأن هذا الاستقلال يبدد سحب الجهل التي تكاثفت على هذا الوادي الذايع الصيت، حيث مهد الحضارة، فيه تعلم الإغريق وعن الإغريق ورثت أوروبا علومها وفنونها واستنار أهلها. ألا يثير ذلك في نفس الغربيين شييا من عرفان الجميل فيردوا لمصر الاستقلال الذي به تستعيد ما كان لها؟
ثم بين لاسكاريس أن مصر المستقلة لن تضر أحدا، وأن استقلالها - وقد أصبحت موضع أطماع الدول - خير حل للمسألة المصرية. تلك المسألة التي أثارتها الحملة الفرنسية والتي يحتم انهيار بناء الدولة العثمانية مواجهتها. وذكر أن مراد بك قبيل موته أدرك مدى هذا التطور الأخير في تاريخ بلاده، وعبر عنه في قوله: «إن مصر قد عرفها كفار الغرب فلن ينفكوا عن السعي للاستيلاء عليها».
وتناول أيضا في مذكرته بحث ما تصيبه الدولة الإنجليزية من نفع في تحقيق هذا المشروع، فأكد صداقة المصريين للأمة الإنجليزية بعد أن عرفوا جنودها، وبعد أن خبروا الحكم الفرنسي، وأن سيدة البحار لا بد وأن تسيطر بنفوذها على مصر، وتكون أكبر من يستفيد من موقعها الجغرافي. «ولم يغفل لاسكاريس الكلام عن أمرين جوهريين. وقد جاء كلامه عنهما أضعف ما في مذكرته: الأول نوع الحكومة المصرية المستقلة، والثاني ما تتخذه هذه الحكومة للدفاع عن كيانها. أما عن نوع الحكومة فاكتفى بعد مراوغة كلامية بالقول بأنها ستكون وطنية عادلة حازمة، وأنها بذلك تنال احترام الأمة وطاعتها» وحبها كما أحب أهل الصعيد في الماضي القريب حكم العربي همام، وكان عادلا حازما.
70 «أما عن وسايل الدفاع فنجده يقرر أن الحكومة الوطنية لن تقوى على صد اعتداء أوروبي إلا بعد مضي زمن طويل، ولكنها تستطيع أن تصد الترك وتسحق المماليك بجيشها الوطني تشد أزره قوة حربية أوروبية، وببذل المال لرجال الباب العالي».
وتؤكد المذكرة في النهاية أن الفكرة الاستقلالية لها أنصار في مصر، وأن هؤلاء الأنصار يخفونها حذر الموت، ويطلب صاحب المذكرة حمايتهم من اضطهاد العثمانيين إذا ما رفضت الدول إنشاء دولة مصرية مستقلة. «أما عن خطة «الوفد المصري» في القريب ، فإنها ستكون السعي لدى الحكومة الفرنسية لإقناعها بقبول قاعدة الاستقلال في مفاوضاتها مع الحكومة الإنجليزية على مصر». ويرجو لاسكاريس أن لا يكون مصدر الاقتراح الفرنسي مما يحمل الحكومة الإنجليزية على رفضه حذر دسيسة سياسية فرنسية، ويطلب في النهاية أن تكون مخابرات إنجلترا مع الوفد شفرية، وعن طريق الكونت أنطون كاسيس المقيم في تريستا.
71
ونجد لاسكاريس فعلا يقدم للقنصل الأول بونابرت مذكرة موقعا عليها من «نمر أفندي» بالنيابة عن الوفد المصري، وهذه المذكرة خالية طبعا من التعريض بالحكم الفرنسي، ومن تفضيل المصريين للإنجليز؛ ذلك التفضيل الوارد في المذكرة لإنجلترا على أنها تتفق معها في الغاية الاستقلالية، وتطلب تحقيقها باسم التاريخ والإنسانية ولمجد بونابرت.
72
وأردف هذه المذكرة بأخرى لوزير خارجية فرنسا - تالليران - يقرر فيها الغرض الأسمى، ويعتذر عن الإجمال تاركا التفصيل إلى أن يستقبلهم الوزير في باريس؛ إذ العرب يجيدون الكلام أكثر مما يجيدون الكتابة، وطلب من الوزير أن يستقبلهم بزيهم الشرقي، إذ إن المسلمين منهم يعز عليهم إبدال غيره به، فضلا عن أن هذا الزي يثير في نفس بونابرت ذكرى فتوحه، ويعرف من لم ير مصر من الفرنسيين بالشرق وأهله.
73 •••
لا اللورد الأول للبحرية الإنجليزية ولا القنصل الأول ولا وزير الخارجية الفرنسية اهتم بما في هذه المذكرات، بل أودعوها سجلات الحكومة.
وفي «مقدمات الصلح» بين فرنسا وإنجلترا اتفق على إعادة مصر للدولة العثمانية وأدمج هذا الاتفاق في معاهدة الصلح النهايية: معاهدة أميان. وفي سياسة الحكومتين قبل أميان وبعدها لم يتعد اهتمامهما بأحوال مصر ونوع حكومتها ما تعلق منها بعلاقة الدولة العثمانية بالمماليك. وحتى في هذا لم يكن الاهتمام بها إلا من حيث تأثيرها في تسهيل - أو منع - وقوع مصر في حكم إنجلترا أو في حكم فرنسا لا من حيث تأثيرها في رفاهية أو سعادة الشعب المصري.
74
لم يكن إذن لهذه المذكرات أي أثر واقعي، ولا نجد في الأوراق ما يدل على وجود تفويض لوفد مصري، وعلى فرض وجوده. فمن الثابت أنه لم يشترك في منحه أي شيخ من العلماء، وإلا لوجدنا في الجبرتي ما يدل عليه. وليس هناك أيضا ما يدل على حصول يعقوب على تفويض من عظماء الأقباط فقط، إذ إن سيرتهم لا تحملنا على الاعتقاد بأن الفكرة الاستقلالية جالت في أذهانهم. وإنما التفويض الوحيد الثابت حصول يعقوب عليه كان لمطالبة الحكومة الفرنسية برد مبلغ من المال أقرضه هو وجرجس جوهري وآخرون للجنرال مينو.
75
يحق لنا بعد هذا أن نقرر أن كلمة الوفد المصري والأدلة التاريخية والفلسفية من أفكار لاسكاريس، وأن يعقوب لم يقرر إلا الفكرة الاستقلالية.
رغم هذا لا تخلو هذه المذكرات من شبه لما قرره المصريون وما أعلنوه في أيام أقرب إلينا من سنة 1801: في اتباع طريق المفاوضة للحصول على الاستقلال، وفي توطيده بالاعتراف الدولي، وفي تبرير طلب الاستقلال بالتنويه بمجد مصر، وبأن عظمة الماضي تبعث على الأمل في عظمة المستقبل، وبأن مصر بها من الموارد في المال والرجال ما يكفل قيام الدولة المستقلة، وأخيرا بأن موقعها الجغرافي يجعلها موضع التنافس، وأن الدولة التي تسيطر عليها تصبح من القوة بحيث تتحكم في مصالح الدول الأخرى الحيوية وخير الجميع في استقلالها. ••• «كان نصيب مشروع 1801 الإهمال، وكذلك كان حظ أصحابه».
وقد عرفنا مآل يعقوب، أما أصحابه فقد عاد نفر منهم لوطنهم بعد قليل، وظل منهم في أوروبا آخرون قامت بينهم القضايا والدعاوى، ووقع أكثرهم في الفقر والفاقة، فأجرت عليهم الحكومة الفرنسية معاشا مدة طويلة، وانتهى أمرهم بالاندماج في الفرنسيين. ولم يكن من أثر ثابت لأحد منهم إلا لليوس بقطر صاحب القاموس الفرنسي العربي.
76
وظل لاسكاريس يضرب في بلاد الشرق سنينا. يجود ذهنه بالمشروع تلو المشروع أحيانا لإصلاح الزراعة في بلاد قوقاز ولبنان، وأحيانا لتدبير مستقبل الجبل السياسي أو لتسوية مشكلة الوهابية. وهو أينما حل يحوطه جو من الظنون والارتياب من جانب الرجال الرسميين وحظه الحزن والفاقة. إلى أن هبط مصر يرتزق من تعليم الفرنسية لإسماعيل بن محمد علي، وبقي كذلك إلى أن مات في 1817. وانتهى كما بدأ «صاحب مشروعات»، إلا أنه على الرغم من ذلك يحق علينا أن نحيي ذكرى من عرف كيف يجيد الكلام في استقلال مصر، وكيف يبينه على مبرر الاستقلال الحقيقي: الكرامة الإنسانية. فكان بذلك معبرا بلغة العصر الحاضر عما جاش في نفس المصري يعقوب.
كذلك كانت بداية الفكرة الاستقلالية، أما تاريخها فهو تاريخ مصر من أيام محمد علي حتى اليوم.
الملاحق
الملحق الأول
1
من القبطان جوزيف إدموندس ربان السفينة الحربية بالاس للإرل أوف سانت فنسنت اللورد الأول للبحرية الإنجليزية
على ظهر السفينة بالاس، جزيرة منورقة في 14 أكتوبر 1801
سيدي
استبحت لنفسي أن أرسل لكم المذكرات المرفقة بكتابي هذا اعتقادا مني بأنه قد يهم حكومة بلادي أن تعلم أن أشخاصا يسمون أنفسهم بالوفد المصري يقيمون في باريس في الوقت الحاضر.
كان ممن ركب في مصر السفينة بالاس تحت إمرتي رجل قبطي ذو سمعة حسنة جدا، وهو من زعماء طايفته وله نفوذ كبير. وقد منحه الفرنسيون لقب جنرال لينالوا تأييده.
عنيت بعض العناية بهذا المنفي السيئ الحظ مما جعله يحادثني في شيون بلاده. وقد صرح لي بأنه يعتقد أن أي أنواع الحكم في مصر أفضل من حكم الترك لها، وأنه انضم للفرنسيين تلبية لباعث وطني عله يخفف عن مواطنيه ما قاسوه، وأن الفرنسيين خدعوهم، وأن المصريين في الوقت الحاضر يحتقرونهم كما كانوا يحتقرون الترك، وأنه لم يفقد بعد آماله في خدمة بلاده وأن ارتحاله لفرنسا قد يمكنه من هذا. وقال أيضا إن الفرنسيين جعلوه يعتقد أن دولتهم لها قوة السيطرة في أوروبا، وأنه لم يعرف إلا قليلا عن قوة إنجلترا البحرية، ولكنه كان يعرف رغم هذا أنه بلا موافقة إنجلترا فإن رغبته في قيام حكومة مستقلة في مصر لن تتحقق. وأضاف صديقه لاسكاريس، (وهكذا وصف نفسه) وكان يترجم أقواله لي، أن الجنرال المعلم يعقوب يرأس وفدا فوضه أو عينه أعيان مصر لمفاوضة الدول الأوروبية في أمر استقلالها. وأثناء سفرنا مات الجنرال وقام الترجمان (لاسكاريس) بتحرير مذكرات أحاديثنا المرفقة بكتابي هذا. وقد أعرب لي الجنرال قبل موته عن رغبته في أن أبلغ موضوع هذه الأحاديث لقايد القوات البريطانية الأعلى كي تعلم به الحكومة البريطانية بواسطته. وقد قرر لي المسيو لاسكاريس أن الوفد لم يزل باقيا، وأن المفوضين الآخرين على ظهر السفينة بالاس لا يزالون أعضاء فيه. هذا وإني لم أتمكن من أن أتبين هل هو واحد من هؤلاء المفوضين أو أنه ليس إلا سكرتيرا مترجما له. وأعتقد من كلامه أنه رجل خيالي.
2
وأظنه بيدمونتي الأصل، وسمعت أنه من أوليك الفرسان الذين تركوا جزيرة مالطة وتبعوا جيش بونابرت. وقد أعطيت ميثاقي للمعلم يعقوب بأن أمتنع أنا والحكومة البريطانية من استعمال ما أبلغنا إياه استعمالا يؤذيهم. هذا ولما كان من المحتمل جدا ذهاب هذا الوفد الذي لا يمكنني تقدير مدى ما بيده من تفويض للإقامة في باريس، فقد رأيت وجوب تبليغكم هذه المذكرات والأحاديث مباشرة. إذ قد يمضي بعض الوقت قبل أن أجد فرصة لإبلاغها أولا لرييسي اللورد كيث. وأرجو أن تتنزلوا فتقروا مسلكي هذا.
ولي الشرف ... إلخ.
الملحق الثاني
3
مذكرات مرفوعة للقبطان إدموندس لتذكره في الوقت المناسب له برءوس أهم الموضوعات التي تبادلناها في أحاديثنا السياسية على ظهر سفينته.
1
الخطاب المرفقة به هذه المذكرات موجه للورد النبيل.
4
وقد يظهر لأول وهلة أنه ليس إلا رجاء بسيطا عاديا في الاهتمام بنا معشر المصريين التعساء. ولكنه يجب أن يعتبره في الحقيقة ملخص الأحاديث السياسية التي دارت بيننا على ظهر السفينة، هذا ولما كان الإسهاب في شرح خطتنا في الوقت الحاضر أمرا أقل ما فيه الرعونة، فإن هذه المذكرات القصيرة المكتوبة على عجل قد تكفي على الأقل لتذكيرك بأهم موضوعات أحاديثنا، ومتى حان زمن إبلاغك إياها إما مباشرة لحكومتك أو للورد النبيل؛ فالمصريون لوثوقهم بما انطوت عليه سجيتك يدعون لحسن فطنتك بعثه على الاهتمام بأمرهم. حتى يكون لنا مما يكتبه للوزارة البريطانية أو مما يقوم به عند عودته لإنجلترا مسند نستند إليه لدى حكومته. وليثق بأنه سينتصر لقضية فيها منافع لأمته، وأي قضية أليق بسعي لورد نبيل مثله!
2
وإذا سلمنا بأن ما سيعرضه الوفد المصري لدى الحكومات الأوروبية على تلك الحكومات باسم المصريين الذين فوضوه قد يظهر قليل الأهمية أمام أعينها، فلتعترف معنا على الأقل - أيها القبطان - أن الدول لن تعمل أبدا عملا أمجد وأنبل من أن تبدد بقرار سياسي واحد ظلمات الجهل والوحشية التي تكاثفت على هذه البلاد الذايعة الصيت. تلك البلاد التي كانت مهد استنارتنا وعلومنا وفنوننا. تلك البلاد التي يمكن القول عنها إجمالا إنها كانت موضع قيام الحضارة التي نقلها اليونان عنها ومن اليونان وصلت لنا. إذا عجزت مصر بعد زوال عزها وازدهارها عن أن تثير شعورا بعرفان صنيعها وما قدمته من خير فلتثر على الأقل عطف الدول الأوروبية عليها، حتى إذا ما كان ذلك وردوا إليها أمرها، أمكنها أن ترضي جميع الدول التي تطمع فيها ولا تصاب بسبب ذلك أي واحدة منها في مصالحها.
3
وقد يحل زمن ليس بالبعيد ترضى فيه الدولة البريطانية عن هذا الحل (للمسألة المصرية). وفي هذه الأثناء قد تقترحه عليها الحكومة الفرنسية. عنديذ يجب على الحكومة الإنجليزية أن تعلم أن الاقتراح نتيجة جهود الوفد المصري، فعليها إذن ألا يريبها أمره ... فإن المصريين
5 ... ولا نظن أن فرنسا تتقدم بهذا المشروع السياسي إلا على سبيل المجاراة، والواقع أن تحقيقه ليس في صالحها كما هو في صالح إنجلترا. ومما لا شك فيه أن حكومة الجمهورية الفرنسية لا تزال على ما كانت عليه من الرغبة في تملك مصر.
4
تتداعى الإمبراطورية العثمانية في جميع أجزايها للانحلال. ويهم الإنجليز إذن قبل حدوث هذا؛ أن يتدبروا لأنفسهم من الوسايل المؤكدة ما يكفل لهم الاستفادة من هذا الحادث المهم عند وقوعه. وإذا تبين لهم استحالة استعمارهم مصر - كما استحال هذا على فرنسا - (فلهم عوضا عنه) خضوع مصر المستقلة لنفوذ إنجلترا صاحبة التفوق في البحار المحيطة بها. وليس من شك في أن الاستقلال يعيد لمصر رخاءها، ولكنها لن تكون إلا دولة زراعية تستمد غناها من الحاصلات الوفيرة التي تنتجها أرضها الخصبة، ومن كونها المخرج والمدخل الوحيدين لتجارة أفريقيا الوسطى. ولا بد من أن إنجلترا بحكم مركزها في الهند تهتم جدا بالمتاجرة مع مصر وما حولها من المناطق، فتستفيد بذلك أكبر استفادة مما اختصت به مصر من المزايا.
5
وكان مراد بك يقول - وربما كان على حق في قوله - إن كفار الغرب (كذلك سمى الأمم الأوروبية) قد صاروا يعرفون مصر أكثر من اللازم وأن الكل يسعى لامتلاكها، وأنها ستكون دايما مثار اختلافهم. قد يقال إن إنجلترا لا حاجة بها إلى ذلك الامتلاك؛ إذ إن سيادتها البحرية تحتم أن تكون كل تجارة مصر في يدها، وأنها بذلك يكون لها ما تريد من نفوذ في مصر. ولكن ماذا يكون من أمر هذا النفوذ إذا رجعت فرنسا كما كانت حليفة الباب العالي الطبيعية، وأخذت الدولة العثمانية تجري على سياسة إرضايها أكثر من إرضاء إنجلترا؟ ألا تذهب الدولة في هذه الخطة فتغلق أبواب مرافيها في وجه الإنجليز؟ أليس من الممكن أن يضغط الفرنسيون على الترك برا فيحملوهم على الإمعان في عدايهم للإنجليز وتحطيم تجارتهم في أراضي الشرق الأدنى وفي البحر الأحمر؟
6
أما عما يختلج نفوس المصريين من عواطف نحو الفرنسيين، فمبعثها ما اتبعه هؤلاء من طرق في حكمهم أثناء احتلالهم البلاد. ولا حاجة بي للكلام في هذا؛ لأني أعتقد أنك تتذكر بسهولة ما دار بيننا من حديث فيه. كل شيء إذن يبرهن - الأسباب السابقة، وما يشعر به المصريون نحو الإنجليز بعد أن أمكن لهم تقديرهم حقا - أن مصر المستقلة لا تستطيع إلا أن تكون موالية لإنجلترا. فعلى هذه إذن أن تسمح سياسيا على الأقل باستقلالها، هذا إذا لم تستطع تأييده بعد حدوثه. يملي هذه الخطة ما تتوقعه من حوادث في المستقبل.
7
فرضنا أن حكومات الدول الأوروبية سمحت باستقلال مصر. كيف يحكم المصريون أنفسهم؟ وكيف يدافعون عن استقلالهم؟ (1)
لا يسمح لنا تعجلنا في تحرير هذه المذكرات بتفصيل الخطة التي يفكر فيها الوفد المصري لحكم البلاد، ويكفي الآن أن نلاحظ أن المسألة هنا ليست مسألة انقلاب منشأه استنارة الأمة واحتكاك آراء فلسفية بعضها ببعض. لا يقوم نظام الحكم الجديد على شيء من هذا، بل تضع قواعده الظروف القاهرة وتخضع له رعية مسالمة جاهلة لا يعرف أفرادها الآن، أو يكادون لا يعرفون إلا عاطفتين خلقيتين: المصلحة والخوف. فإن أمكن الحكومة الجديدة (وليس هذا بالأمر العسير) أن ترفه من عيش الناس بعض الشيء، وأن تزيد كسبهم قليلا، فمن المحقق أنها تجد منهم نصراء متحمسين. أوليس أي نظام أفضل من الاستبداد التركي؟ لتكن إذن الحكومة الجديدة عادلة، حازمة، وطنية كما كانت حكومة الشيخ همام العربي في الصعيد؟ (وقد حدثتك عن تاريخه)، ولتثق عند ذلك بأنها ستحترم وتطاع وتحب. (2)
كيف يدافع المصريون عن استقلالهم؟ ماذا يصنعون لو اعتدت عليه دولة أوروبية؟ لا تتوقع حدوث شيء من هذا إلا بعد زمن طويل، وعند ذلك يكون قد تم تنظيم الجيش الوطني وجعله بحيث يستطيع رد الاعتداء. أما إذا كان الاعتداء من جانب الترك أو المماليك؛ فإنا نعتقد أن الدول الأوروبية تحظر عليهم مس استقلال مصر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المصريين يمكنهم أن يستخدموا جيشا أجنبيا من 12000 إلى 15000 جندي وينفقوا عليه. ويكفي هذا الجيش لصد الترك عند حد الصحراء، ولسحق المماليك في مصر نفسها، ويكون هذا الجيش الأجنبي أيضا نواة الجيش الوطني. هذا ولما نعلمه من تأثير الذهب في العثمانيين، وأنهم يعملون أي عمل للحصول عليه، فإننا نستطيع ردهم عن مصر ببذله لهم. وكان المماليك يستخدمون المال كلما رأوا سحب السياسة تتلبد في القسطنطينية، وتنذرهم بشر مستطير.
وينبغي ألا يفوتنا أن نذكر أن المصريين منقسمون بين عدة طوايف، وأن هذا الانقسام يتيح الوسايل لدفع هذه الطوايف بعضها ببعض فتتكافأ بذلك قواها. وللوفد المصري صلات بهذه الطوايف على اختلافها، ولا ينحاز لواحدة منها دون الأخرى. وهذه الصلات مستورة وستظل مستورة تماما عن الحكومة التركية في مصر، ولا بد من هذه الحيطة إزاء حكم مستبد يأخذ الناس بالشبهات. ولو عرف الترك حقيقة الأمر لما ترددوا في الفتك بإخوان الاستقلال عن آخرهم. والذين هجروا مصر مع الجيش الفرنسي من هؤلاء الإخوان قد تحدوا غضب الترك (وأمنوه)، ولكن إخواننا في مصر حالهم غير هذه. هم تحت السيف والعصا، فليس أمامهم إلا المواربة والظهور بمظهر عبيد السلطان والمخلصين.
8
سيبذل المصريون عامة ووفدهم لدى الحكومات الأوروبية (خاصة) كل ما يستطيعون من جهد لتخليص أنفسهم بشكل ما من النير الذي يثقل حمله على بلادهم التعسة. ولكن إذا خاب سعيهم وشاء القدر أن يملك الترك هذه الأقاليم الجميلة الشهيرة وعرضها بذلك لتجدد الإغارات عليها، وجاءت معاهدات الصلح العام بين الدول على عكس ما يشتهون، فأقل ما يرجوه المهاجرون المصريون من الدول المتعاهدة أن تدبر لهم ضمانا يقيهم على الأقل، إذا عادوا لوطنهم، شر انتقام الترك منهم.
9
هذا ولو أن الوفد المصري لدى الحكومات لن يعمل إلا في تحقيق مشروع سياسي فيه نفع جميع الحكومات بما فيها الحكومة التركية (وليس تضميننا الحكومة التركية على غرابته من شطط القول، فإنا يمكننا البرهنة على صحته)، فقد تعرض أحوال لا بد فيها من المحافظة على سر المفاوضة. لذلك فإنا نرفق بهذا «شفرا» يستعمل في مراسلاتنا عند الحاجة إليه.
10
ويرى الوفد المصري حرصا على تحقيق ما يصبو له من إبلاغ المفاوضة غايتها لزوم كتمان أمر ما، فاتحناكم فيه من ممهدات لها وما قد تبلغونه للورد النبيل عن فرنسا وعن أي امرئ في مقدوره عرقلتها. وذلك أن خطة الوفد أن يسعى في أوروبا كي تكون فرنسا البادية بعرض المقترحات الأولى (الخاصة بالاستقلال) على إنجلترا. وتكون إنجلترا عنديذ قد اقتنعت (وهذا الاقتناع ثمرة أحاديثنا معكم وسعي اللورد) بما في ذلك الاستقلال المقترح من مزايا سياسية فتؤيده. وبهذه الطريقة لا يتعرض الوفد المصري؛ لأن يرى الحكومة الإنجليزية ترفض المشروع تحت باعث من نفور الأمتين إحداهما من الأخرى، أو حذر دسيسة من دسايس الجمهورية (الفرنسية).
11
هذا، وكي تسهل مراسلتنا ونحن في فرنسا أو في غيرها من البلاد، يمكنك أيها القبطان أن ترسل ما تريد للسنيور الكونت أنطون كاسيس
6
المقيم في تريستا، وهو يتولى إرسال الرسايل حيث يقيم الوفد، على أن يوضع تحت عنوانه عنواني. أما ما قد يرسل لي (من غيركم) من إنجلترا، فإن وصولنا إلى باريس يذيع أمرنا فلا تصعب معرفة أين أقيم . وبهذا يسهل تسلمي ما قد تكتبه لي الحكومة (الإنجليزية). ولكن تلزم الحيطة التامة في هذا الأمر حتى لا تثار شكوك الحكومة الفرنسية بالمرة.
على ظهر السفينة بلاس، في 21 سبتمبر سنة 1801.
الملحق الثالث
7
من نمر أفندي بالنيابة عن الوفد المصري للقنصل الأول بونابرت،
8
إلى القنصل الأول للجمهورية الفرنسية من الوفد المصري الكثير الحب له، محجر مارسيليا، في أول فنديميير من السنة العاشرة (23 سبتمبر 1801 / 18 صفر سنة 1216).
9
في أيام العالم الأولى، في تلك العصور البعيدة المجهولة، عندما كانت فرنسا لا تختلف كثيرا عما صورته الطبيعة، ولا يظهر منها للناظر إلا جليد وغابات، كانت مصر الزاهية المتحضرة تلقي دروس العلم والعرفان على متشرعي الإغريق. ثم دار الفلك دورته، وشاء القدر أن يفد مصريو اليوم الحاضر أحفاد معلم الحضارة بالأمس إلى فرنسا، وهي تحت حكمك الخالد الذكر ليدرسوا نظم أمة يحبونها ويتعرفوا إلى ما اهتدت إليه من وسايل لا عهد لغيرها من الأمم بها، تلك الوسايل التي مكنت جمهورية ناشية من صيانة ما كسبته في ميدان الحرب بما استحدثته من نظم سياسية جديدة ... وكما أن سولون عند عودته لبلاده من مصر شرع للإغريق، كذلك الوفد المصري الذي فوضه المصريون الباقون على ولايهم لك سيضع لمصر ما ترضاه لها من نظم عندما يعود لها من فرنسا. يكون هذا أيها القنصل الأول إذا تنزلت من أجل مجدك، ولنفع الجمهورية السياسي، فمددت يد المساعدة للمصريين البؤساء الذين حطمت في الماضي أغلالهم، والذين عادوا ينوءون بها من جديد، وأحسنت استقبال وكلايهم في باريس. وفي العاصمة سيكون استقبالنا حفلا شرقيا يجدد ذكرى فتح عظيم نلته ثم فقدته. ولا بد أنك تحس إحساسا شديدا بألم ما فقدت، فأمر في معاهدات الصلح العام أن تكون مصر مستقلة تعوض عليك خسارتك ماية مرة. هذه هي أمانينا، وهذا ما أخذنا على أنفسنا ميثاقا به.
عن الوفد المصري
وكيله: نمر أفندي (حاشية)
10
أغا الانكشارية
11
وعضو الوفد، الذي عرفته أيام أن كنت في القاهرة يرجوني أن أعيد لك ذكره ما شرفته به من عطفك عليه .
ن . أ.
الملحق الرابع
12
من نمر أفندي لوزير الخارجية الفرنسية (تاليران)
سينزل في مرافي الجمهورية الفرنسية عدد غير قليل من مهاجرين شرقيين تركوا بلادهم مع ذلك الجزء من جيش الشرق الذي تم جلاؤه عن مصر. والوفد المصري بالرغم من أنه قد حرم رييسه الجنرال يعقوب الذي مات أثناء السفر، يعلن كل ما يحس به من ولاء وحب للجمهورية الفرنسية، ويرى من واجبه أن يلجأ إليك أيها الوزير لتتفضل وتضعه هو وهؤلاء المهاجرين في كنفك، وتقول له كما يقول بدوي الصحراء لضيفه: «كن في أرضك».
13
كان لويس الرابع عشر يعمل في الظاهر لضم كنيسة الحبشة للكنيسة الرومانية، ولكنه كان يسعى في الواقع لمد نفوذه السياسي نحو أقاليم أفريقيا الوسطى الجذابة الخفية، فبذل جهودا عديدة غير مثمرة ليعلم في فرنسا شبانا من المصريين، وعلى الأخص من القبط، فإن بطريرك هؤلاء هو في الواقع بابا الأحباش. لم ينجح الملك في سعيه هذا. واليوم نرى الجمهورية الفرنسية تحت حكم القنصل الأول تحقق دون عناء ما عجزت عن تحقيقه - اللهم إلا الجزء الضييل منه - الملكية الفرنسية المطلقة، وقد بلغت منتهى القوة الاستبدادية. هذا والوفد المصري الذي ينوب عن الأمة المصرية لدى الحكومة الفرنسية يمثل وحده كل ما يجول في نفوس مفوضية العديدين من شعور بصالح الجماعة، وما يملأ أفيدتهم من أمان وما يملكون من أصالة تدبير ونفوذ وثروة ويعبر عما أجمعوا عليه من رغبتين: الأولى، سحق القوة الغشوم التي تستبد بهم من جديد. الثانية، وضع أملهم في فرنسا، اعتقادا منهم أن مصلحة الجمهورية الفرنسية ذاتها تقضي عليها أن لا تخيب أملهم. نتقدم إليك إذن أيها الوزير برأي: تكبدت فرنسا في الشرق خسارة عظيمة، لم لا تتخذ من هذا الوفد وسيلة لتعوض ما فقدته؟ إنك إن تفضلت فدعوت الوفد لباريس قبل توقيع الاتفاق التمهيدي مع إنجلترا فإنا نستطيع أن نؤكد لك أن فرنسا تحتفظ للأبد بنفوذها السياسي في الشرق، وتدرأ عنه ما قد يفقدها إياه زمنا طويلا من أثر الجلاء عن مصر، وما آل إليه أمرها الآن ، وسعي الدول التي تخشى بحق علو كلمة فرنسا. بل نستطيع أن نؤكد أكثر من ذلك. نستطيع أن نؤكد أن فرنسا إذا أرادت يمكنها بواسطة أمة - لن تكون إلا موالية لها - مد نفوذها نحو أواسط أفريقيا. وهكذا يتحول ترككم مصر للإنجليز من حادث نحس إلى منبع مجد للقنصل الأول، ورفاهية لأقاليم فرنسا الجنوبية.
ولا يرى الوفد المصري في الوقت الحاضر فايدة في الإسهاب، فهو يستطيع في جلسة واحدة في باريس أن يبين عن مقاصده ما لا يستطيع في عشرين مذكرة سياسية. ونحن العرب نقدر في الكلام على ما نشاء وإن كنا في الكتابة لا نبلغ إلا جهد المقل. هذا إلى أننا غير غافلين عما توجبه علينا كثرة شواغلك السياسية من الإجمال في الرسايل. ونرجو التفضل بالرد على كتابنا هذا، وأن تسمح لنا إن تفضلت باستقبالنا في باريس أن تقابلنا بزينا الشرقي. فالمسلمون منا يشق عليهم خلع زيهم. وفضلا عن هذا، هذه الأزياء الشرقية قد تذكر القنصل الأول بفتوحه وراء البحار، وترضي المستطلعين ممن لم يتبعوه للشرق.
والوفد المصري يعلم أن وقت القنصل الأول الذي تصدر عن إرادته أمور الحكم حتى في جزيياتها، وتستظل الدولة في ظله الظليل، أثمن من أن يصرفه في التفكه بقراءة ما يرد إليه من الرسايل الخاصة، ولكننا نرجو أن يقدر أن وفدنا جديد في بابه، وأنه يصل إلى فرنسا في ظروف خاصة، وإن كتابنا له
14
المرفق بهذا له ما له من أهمية فيتنزل لتسلمه منا، ويتأمله بحكمته البعيدة الغور.
نفس التاريخ كالملحق السابق
অজানা পৃষ্ঠা