قالت: «سلمت يا ولدي وعسى أن يبقيك الله لي سالما، وشقيقتك لكي أفرح بك وأزوجك!» قالت ذلك ونظرت إليه كأنها تنتظر ما يبدو منه، وكانت كلما خاطبته في أمر الزواج قبل ذلك اليوم ينكر عليها أمره، ويأخذ في إقناعها بأن الزواج متعب، وأن البقاء بدون زواج أفضل وأكمل وأسعد، وكانت تستاء من ذلك وتتوسل إليه ألا يقول ذلك؛ لأن الزواج أمر لابد منه، إن عاجلا أو آجلا، وهو يقول أن لا مأرب له فيه، وأنه سعيد بمعيشته مع والدته وشقيقته.
أما تلك الليلة فإنه لم يجبها، بل بقي صامتا. وتذكر الفرق بين حاله في الأمس واليوم، فقد كان خاليا لا هم له سوى إتمام عمله ومرضاة والدته، والاشتغال بالمطالعة والكتابة ساعات الفراغ، والقلب خال والعواطف هادئة والحياة هنية سهلة لا يكدرها اضطراب ولا يشوبها قلق ولا تعترضها غيرة أو شوق، والعقل حر يجول في الموضوعات العلمية والفكاهية والأبحاث الممتعة، فأصبح اليوم منشغلا تتنازع في نفسه العواطف بين الحب، والشوق، والاهتمام. فلما خاطبته والدته ولم يجبها، ظنته في شاغل مزعج يريد إخفاءه عنها، فعاودته السؤال قائلة: «كيف تقول إنك غير منزعج وأراك صامتا لا تتكلم؟!»
فارتبك في أمره لا يدري بماذا يجيب، وقد صعب عليه التصريح بما يخالج نفسه من ناحية الفتاة، وهو يتردد بين الحياء والارتباك، فغلب عليه الحياء فقال: «قلت إني بخير ولا شاغل لي، ولكنني أفكر فيما رأيناه اليوم في الأهرام من المناظر البديعة، وما تمتعنا به من الهواء النقي.»
قالت: «أظنك تفكر في شيء آخر؛ لأن وجهك منقبض، وفي نفسك شيء تريد إخفاءه عني، فإذا كنت تواجه شيئا يزعجك، لماذا لا تصرح به لي، وإذا كنت تخفي ذلك عني فلمن تبوح به؟»
فحاول الدفاع عن نفسه عبثا حتى رأى والدته قد علا وجهها الانقباض والحزن، وكادت تبكي، فقال وهو بين الإحجام والإقدام: «إذا كان في نفسي شيء فأنت أحق الناس بمعرفته.»
قالت: «قل إذن يا حبيبي!» وهمت إليه وضمته إلى صدرها وقبلته، وقد كادت تتساقط العبرات من عينيها.
فقال: «لا حاجة بك إلى الخوف يا أماه فإن الذي في نفسي لا يحزنك بل هو سبب كبير لفرحك.»
فأشرق وجهها وأبرقت أسرتها وازداد قلقها لاستطلاع أفكاره، وقالت بلهفة: «قل بالله! قل يا حبيبي لتسري عني وتخفف آلامي.»
قال: «أنت تعلمين أن أول شيء أسعى إليه في هذه الدنيا هو فرحك.»
قالت: «قل إذن قل! أستحلفك بربك أن تصرح بما في نفسك.»
অজানা পৃষ্ঠা