وتغنى الطائر: الآن، وفي هذا المكان يا قوم، الآن، وفي هذا المكان يا قوم.
وخطر له أنه من العجيب حقا أن يكون هنا تحت الأشجار ولا يكون هناك في قاع مضيق بالا، بل - وهو أسوأ من ذلك - ألا يكون حطاما عند سفح الجبل؛ لأنه حتى بعد أن استطاع بمحض المعجزة أن يقود سفينته الغارقة خلال الموج ويرسيها على الشاطئ الرملي الوحيد بين تلك الأميال من سواحل بالا الصخرية؛ حتى مع ذلك لم تكن النهاية. فلقد كانت التلال شامخة؛ ولكن في أعلى مكانه المنخفض كان هناك واد ضيق يجري فيه تيار من الماء تقطعه مساقط شفافة متتابعة. وكانت هناك أعشاب وأشجار تنمو بين جدران من الجير الرمادي؛ ستمائة أو سبعمائة قدم من الصخر عليه أن يتسلقها، في حذاء حفيف كحذاء لعبة التنس. وكل مواقع الأقدام زلقة تغمرها المياه. وفوق ذلك تلك الأفاعي، وإحداها سوداء تلتف فوق الغصن الذي كان يتشبث به. وبعد خمس دقائق تكورت الأفعى الخضراء الضخمة هناك فوق صخرة ناتئة في المكان الذي كان يتأهب ليخطو عليه. فزع يتلوه فزع أشد. وقد انخلع قلبه لمرأى الأفعى وسحب قدمه بشدة. وأفقدته توازنه هذه الحركة المفاجئة التي لم يحسب لها حسابا. ومرت به برهة طويلة من الغثيان وهو موقن في جزع شديد أن هذه هي نهايته. وترنح عند الحافة ثم هوى، الموت، الموت، الموت! وبعدئذ ألفى نفسه - وفي أذنيه صوت الخشب يتطاير شظايا - معلقا في أغصان شجرة صغيرة، وجهه مخدوش، وركبته اليمنى مجروحة تسيل منها الدماء، ولكنه ما برح على قيد الحياة. فتابع تسلقه في عناء شديد. وقد آلمته ركبته وأوجعته، ولكنه واصل التسلق، ولم يكن له عن ذلك بديل. ثم أخذ النور يتلاشى. وفي النهاية كان يتسلق في شبه الظلام، يدفعه الإيمان واليأس القاتل.
وصاح الطائر: الآن، وفي هذا المكان يا قوم.
غير أن ويل فارنبي لم يكن في هذه الآونة ولا هذا المكان. بل كان هناك فوق الصخور وفي لحظة السقوط المفزعة، وخشخشت الأوراق الجافة تحت قدميه وأخذته الرعشة، فكان يرتجف في عنف شديد وعلى غير إرادته من قمة رأسه إلى أسفل قدميه.
الفصل الثاني
وفجأة لم يعد الطائر واضح العبارة، وبدأ يصيح، وطرق أذنيه صوت بشري حاد يقول: المينة (طائر آسيوي). وأضاف بعد ذلك شيئا في لغة لم يفهمها ويل. ثم استمع إلى صوت خطى فوق أوراق الشجر الجافة، أعقبتها صيحة ذعر. وساد الصمت بعد ذلك. وفتح ويل عينيه فرأى طفلين رائعين يتفرسانه وعيونهما تحملق في دهشة وفزع مريع، أصغرهما صبي نحيل الجسم ربما كان في الخامسة أو السادسة من عمره لا يستره سوى إزار أخضر اللون. وإلى جواره تقف فتاة صغيرة تكبره بأربع أو خمس سنوات تحمل فوق رأسها سلة من الفاكهة. وكانت ترتدي ثوبا قرمزي اللون يكسوها من خصرها حتى عقبيها. أما ما فوق الخصر فقد كان عاريا. بشرتها تتلألأ في ضوء الشمس فتتخذ لون النحاس الباهت المطلي بلون وردي، ووجه ويل نظرته من طفل إلى آخر. ما أجملهما! وما أكملهما! وما أشد ما هما عليه من أناقة! وما أشبههما بالسلالة الأصيلة! أما الصبي فهو مخلوق رائع الحسن قوي متكور وجهه كالملاك، والفتاة مخلوقة أخرى رائعة الجمال، دقيقة الملامح، وجهها صغير الحجم مستطيل جاد النظرات تحوطه ضفيرتان من الشعر الأسود.
ثم كانت صيحة أخرى مباغتة، والطائر في مجثمه فوق الشجرة الذابلة يتلفت في عصبية يمنة ويسرة، وبعد صيحة أخيرة من الذعر انطلق في الفضاء. ومدت الفتاة يدها لمصافحة ويل دون أن ترخي نظرتها إلى وجهه. أما الطائر فرفرف جناحيه، ثم استقر، واهتز هزة كبرى، اتزن بعدها، وبعدئذ طوى جناحيه وشرع فورا في فواق متواصل. وشخص إليه ويل بغير دهشة؛ فأي شيء كان حينذاك ممكن الوقوع، حتى الطيور الناطقة التي تجثم فوق إصبع طفل صغير. وحاول ويل أن يبسم لهما، غير أن شفتيه كانتا لا تزالان ترتعشان. وقد قصد بابتسامته أن يتودد إليهما ولكنها بدت كأنها حركة في الوجه تدعو إلى الخوف. واختفى الصبي خلف أخته.
وكف الطائر عن الفواق وبدأ يكرر لفظة لم يفهم ويل لها معنى. هل كانت هذه اللفظة «رونا»؟ كلا. كانت «كارونا» بالتأكيد.
ورفع يدا مرتجفة وأشار إلى الفاكهة في السلة المستديرة: المنجة والموز ... وسال اللعاب من فمه الجاف.
وقال: أنا جائع. ثم أحس أن الطفل في مثل هذه الظروف الغريبة قد يكون أكثر تفهما له إذا هو اصطنع اللهجة التي يتحدث بها رجل صيني يلعب دورا في ملهاة موسيقية، فغير من عبارته وجعلها كحديث الأجنبي عن اللغة.
অজানা পৃষ্ঠা