105

كان واضحا - بغير جراحة أساسية - أن الراجا يشرف على الموت في غضون شهرين، والجراحة الأساسية تعجل كثيرا بموته. ولنذكر أن ذلك كان في الزمن القديم الذي كانت تجرى فيه عمليات التسمم الدموي بغير مخدر، وفي أحسن الظروف كانت الجراحة تنتهي بوفاة مريض من كل أربعة، وحينما لا تكون الظروف مواتية زادت نسبة الوفيات؛ فتبلغ خمسين في المائة، أو سبعين، أو مائة في المائة. وتشخيص هذه الحالة لم يكن مبشرا؛ فالمريض ضعيف، والعملية قد تطول، وتزداد صعوبة وتسبب آلاما مبرحة، والفرصة كبيرة في موته وهو على طاولة العمليات، ومن المؤكد أنه حتى إن نجا من العملية فوفاته أمر محتوم بعد بضعة أيام من تسمم الدم. وفكر الدكتور أندرو ماذا يكون مصيره إذا مات وقيل إن جراحا أجنبيا قد قضى على حياة الملك. ثم من ذا الذي يمسك المريض وهو يتلوى أثناء العملية من أثر المبضع؟ ومن من خدمه أو حشمه يجرؤ على عصيان الأمر إذا صاح السيد من الألم أو طلب منهم بصراحة أن يخلوه وشأنه؟

ربما كان التصرف الحكيم أن يقول فورا إن الحالة ميؤس منها، وأنه لا يستطيع أن يقوم بعمل ما، ويرجو إعادته إلى مدراس في الحال. ثم أعاد النظر إلى الرجل المريض، وبادله الراجا بنظرة من خلال القناع البشع الذي بدا فيه وجهه المشوه، وقد حدق بعينين كأنهما عينا مجرم مدان يتوسل إلى القاضي أن يشمله برحمته. ومس هذا الرجاء شغاف القلب من الدكتور أندرو فابتسم له مشجعا، وربت على يده النحيلة. وفي أثناء ذلك نبتت في ذهنه فكرة؛ فكرة سخيفة لا يفكر فيها إلا مخبول العقل، فكرة مخزية، ولكن على الرغم من ذلك ...

تذكر أنه منذ خمس سنوات، عندما كان لا يزال في أدنبره، اطلع على مقال في مجلة «لانست» يهاجم فيه كاتبه الأستاذ أليتسون، ذلك الرجل الذي ساءت سمعته، لأنه تحدث بحماسة عن إمكان تنويم الحيوان تنويما مغناطيسيا. وقد بلغت به جرأة الرأي أن يتحدث عن إجراء عمليات بغير ألم حينما يكون المرضى في غيبوبة تنويم مغناطيسي.

فالرجل إما أحمق ساذج وإما وغد بلا ضمير؛ لأن الأدلة التي يبرر بها هذا الهراء كانت تافهة بشكل واضح. الأمر كله احتيال ودجل وخداع؛ وغير ذلك مما ورد في مقال من ستة أعمدة كلها استنكار لما ينطوي عليه هذا الادعاء من انحطاط خلقي. وقد قرأ الدكتور أندرو هذا المقال في ذلك الحين بدرجة من التصديق؛ لأنه كان ما يزال متأثرا بلامتري وهيوم وكابانيه. ثم نسي بعد ذلك كل ما يتعلق بتنويم الحيوان مغناطيسيا. والآن وهو إلى جوار سرير الراجا عادت إليه الذكريات؛ الأستاذ المخبول، والإشارات المغناطيسية، والبتر بغير ألم، وانخفاض نسبة الوفيات والشفاء العاجل. ربما كان في الأمر شيء. وكان مستغرقا في هذه الأفكار عندما قاطع سكونه الرجل المريض بحديثه إليه. وقد تعلم الراجا الحديث بالإنجليزية بطلاقة ولكن بمحاكاة تامة للرجل الذي علمه إياها فكان في نطقه لكنة عامية قوية. وقد أخذ اللغة عن فلاح شاب ترك سفينته عند راندنج بولو واستطاع أن يعبر المضيق ليصل إلى الراجا.

وضحك الدكتور ماك فيل وواصل سرد القصة وقال: هذه اللهجة العامية يشير إليها جدي الأكبر في مذكراته حينا بعد حين. وكان يرى أنه من غير الملائم بتاتا لملك أن يتحدث كما كان يفعل سام ويلر.

5

وعدم الملاءمة في هذه الحالة لم تكن اجتماعية فحسب؛ فالراجا - فوق أنه ملك - كان رجلا مثقفا وعلى درجة كبيرة من التهذيب . لم يكن رجلا ذا عقائد دينية قوية فحسب (فأي أبله ساذج قد يكون ذا عقائد دينية قوية) ولكنه كان كذلك رجلا ذا تجارب دينية وبصيرة روحية. فإذا عبر مثل هذا الرجل عن نفسه بالعامية كان ذلك بالنسبة لرجل أسكتلندي من عهد فيكتوريا الباكر قرأ «مذكرات بكويك» أمرا لا يمكن التسامح فيه. ولم يستطع الراجا أن يتخلص من هذه اللهجة الإنجليزية العامية على الرغم من مهارة جدي الأكبر في تعليم اللغة له. ولكن ذلك كله حدث في المستقبل. أما في اللقاء المأسوي الأول فقد تأثر جدي الأكبر تأثرا غريبا بهذه اللهجة التي تتحدث بها الطبقة الدنيا والتي تؤذي السمع. وهمس المريض بهذه اللهجة قائلا: أعني يا دكتور ماك فيل. وقد ضم راحتيه تضرعا. - وكانت هذه الضراعة حاسمة؛ فقد تناول الدكتور أندرو يدي المريض النحيلتين - دون أدنى تردد - ووضعهما بين يديه، وبدأ يتكلم بنغمة الواثق عن علاج عجيب جديد كشف عنه في أوروبا حديثا ولم يمارسه حتى الآن سوى حفنة من مشاهير الأطباء. ثم التفت إلى الحاضرين الذين كانوا طوال هذا الوقت يطوفون حول المكان، وأمرهم أن يغادروا الغرفة. ولم يفقهوا قوله، ولكن نغمة الكلام وما صاحبها من إشارات كانت واضحة لا لبس فيها، فانحنوا احتراما وانسحبوا. وخلع الدكتور أندرو معطفه وطوى أكمام قميصه وشرع في أداء الإشارات اليدوية المغناطيسية المعروفة والتي قرأ عنها في مجلة لانست مستمتعا بها شاكا فيها، من قمة الرأس إلى الوجه إلى الجذع حتى البطن، مرة تلو المرة حتى يصل المريض إلى حالة الغيبوبة؛ أو حتى يرى الدجال المسيطر أنه قد آن له أن يعلن أن مريضه المخدوع أصبح الآن تحت تأثير المغناطيس، (وقد ذكر حينئذ التعليق التهكمي الذي أدلى به كاتب المقال المجهول). دجل وهراء وخداع. ولكن على الرغم من ذلك ... بدأ يعمل في صمت، عشرون إشارة، خمسون إشارة، وبعدها تنهد المريض وأغمض عينيه، ستون، ثمانون، مائة، مائة وعشرون. وكانت الحرارة خانقة، وقميص الدكتور أندرو مبتلا بالعرق، وذراعاه تؤلمانه، ولبث يكرر حركاته العابثة وهو متجهم، وبلغ مائة وخمسين، ثم مائة وخمسا وسبعين، ثم مائتين. وكل ذلك خداع وهراء، ولكنه على الرغم من ذلك كان مصمما على أن يسوق هذا البائس إلى النوم حتى إن استغرق في ذلك يومه كله، وقال بصوت مرتفع وهو يؤدي الإشارة للمرة الحادية عشرة بعد المائتين: أنت ستنام. وبدا كأن الرجل المريض قد غرق في وساداته، وفجأة نمى إلى سمع الدكتور أندرو صوت صفير مخشخش، وهو صوت التنفس، فقال على عجل، إنك لن تختنق هذه المرة؛ فهنا مكان فسيح يسمح للهواء أن يتحرك، ولن تختنق. وبدأ الراجا يتنفس في هدوء وقام الدكتور أندرو ببضع إشارات أخرى، ثم رأى أن يستريح قليلا ليكون في جانب الأمان، ومسح وجهه، ثم نهض ومد ذراعيه وذرع الغرفة جيئة وذهابا. وعاد إلى جوار السرير وتناول أحد معصمي الراجا وكان أشبه بالعصا، وجس النبض. وكان منذ ساعة قريبا من مائة، أما الآن فقد هبط إلى سبعين. ورفع الذراع، وتعلقت يد الرجل مرتخية كأنها يد ميت من الأموات. ثم ترك هذه اليد فسقطت الذراع من تلقاء نفسها من أثر ثقلها، جامدة لا تتحرك من مكان سقوطها. وصاح به: «يا صاحب السمو!» ورفع صوته ثانية صائحا: «يا صاحب السمو!» فلم يحر جوابا. الأمر كله دجل وهراء وخداع، ولكنه - مع ذلك - فعل فعله، ما في ذلك شك.

ورفرفت حشرة كبيرة براقة اللون (هي فرس النبي) حول إحدى قواعد السرير الذي كان يستلقي عليه ويل، وطوت الحشرة جناحيها القرنفلي والأبيض، ورفعت رأسها الصغير المسطح، ومدت رجليها الأماميتين ذواتي العضلات القوية التي لم يعهدها واتخذت وضع الصلاة. واجتذب الدكتور ماك فيل منظارا مكبرا وانحنى إلى الأمام لفحص هذه الحشرة.

ونطق اسمها باللاتينية وقال: إنها تشكل نفسها لتبدو كالزهرة. وعندما يأتي الذباب والسوس ليرشف رحيق النبات ترشفها الحشرة، وإذا كانت أنثى أكلت عشاقها. ثم نحى المنظار جانبا واتكأ على مسند مقعده وقال مخاطبا ويل فارنبي: أكثر ما أحبه في الكون ما فيه مما هو بعيد الاحتمال. انظر إلى هذه الحشرة، وإلى الإنسان المفكر، وإلى مقدم جدي الأكبر إلى بالا، وإلى التنويم المغناطيسي. هل هناك ما هو أبعد من هذا احتمالا؟

قال ويل: لا شيء اللهم إلا قدومي إلى بالا والتنويم المغناطيسي، بالا التي بلغتها عن طريق سفينة محطمة وصخرة ناتئة، والتنويم المغناطيسي عن طريق مناجاتي لنفسي عن كاتدرائية إنجليزية.

অজানা পৃষ্ঠা