وقد استظهر أصحابنا رحمهم الله من هذا أن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية بيان، وهداية توفيق، فهداية البيان تعم المؤمن والكافر ويحمل عليها نحو قوله تعالى: { وأما ثمود فهديناهم } ، وأما هداية التوفيق فهي محصورة في المؤمنين، ويحمل عليها نحو قوله عز وجل: { أولئك الذين هدى الله } ، وهداية البيان يصح إسناد فعلها إلى غير الله تعالى كما في قوله: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } فإن المراد بهدايته صلى الله عليه وسلم إلى الصراط المستقيم دعاؤه إليه المقرون ببيان معالمه، أما هداية التوفيق فليست من مقدور البشر وإنما هي من مقدور القادر على كل شيء الذي يصرف القلوب كيف يشاء، وإذا نظرنا إلى الآيات التي أوردناها وجدنا أن الهداية أوسع مدلولا وأكثر تشعبا مما ذكره أصحابنا، فمدلولها يشمل هداية الدين وغيرها، ومتعلقها الإنسان المخاطب بهداية الدين وغيره من المخلوقات، لذلك أميل إلى ما قاله بعض أئمة التفسير في القديم والحديث في تفسير الهداية وتقسيمها إلى أقسام:-
الأول: هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري، وتكون للإنسان وغيره منذ الولادة، فالمولود يشعر بحاجته إلى الغذاء فيصرخ طالبا له بفطرته، ويلهم امتصاص الثدي بمجرد وصوله إلى فيه.
الثاني: هداية الحواس والمشاعر، وهي تتميم للهداية المذكورة في القسم الأول، وهي أيضا مشتركة بين الإنسان وغيره، بل غير الإنسان أكمل فيها وفيما قبلها منه فإن حواس الحيوان وإلهامه تكمل له بعد ولادته بقليل، أما الإنسان فإنه يتدرج فيها في زمن طويل، ولذلك لا تظهر عليه عقب الولاده علامات إدراك الأصوات والمرئيات، وعندما يبصر لا يمكنه تحديد المسافات فيرى البعيد قريبا وتحدثه نفسه بأن يمد إليه يده وهذا الغلط في الحس لا ينفك عن الإنسان حتى بعد نموه وكماله، ألا تراه يرى النجم نقطة في السماء وهو قد يكون أكبر من الأرض بملايين المرات، وهذان القسمان داخلان في عموم قوله تعالى:
الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
[طه: 50] وقوله:
والذي قدر فهدى
[الأعلى: 3].
الثالث: هداية العقل وهي خاصة بالإنسان من بين الكائنات الحية المستقرة في الأرض وهذا لأن الإنسان ينوء بثقل أمانة الخلافة في الأرض وهو كائن اجتماعي تتوقف مصالحه على التعارف والتفاهم بين بني جنسه ولم يعط من قوة المشاعر الباطنة والظاهرة ما يكفيه للقيام بما تقتضيه الحياة الاجتماعية كما أعطى النحل والنمل فإن الله قد وهبها من الإلهام الفطري ما يكفيها لأن تعيش مجتمعه يؤدي كل واحد منها وظيفة العمل لجميعها ويؤدي الجميع وظيفة العمل للواحد، وهذا سبب الترابط بين أفرادها ووجود النظام فيما بينها.
أما الإنسان فلم تكن له هذه الخاصية ولم يتوفر له هذا الإلهام، ومع ذلك فهو يتميز عنها بما منحه من شرف الخلافة في الأرض والسيادة فيها، وقد وهبه الله في مقابل ذلك هداية العقل التي هي أقوى من هداية الحس والمشاعر، فإن العقل هو الذي يصحح أخطاء الحواس والمشاعر ويكشف عن أسباب هذه الأخطاء، فعندما يرى البصر الكبير صغيرا على البعد، ويرى العود المستقيم معوجا في الماء، ويذوق الصفراوي الحلو فيحس منه المرارة يحكم العقل في ذلك فيفند هذه الأخطاء ويبين أسبابها، وحمل بعضهم على هذه الهداية قول الله سبحانه
وهديناه النجدين
অজানা পৃষ্ঠা