كانت لا تزال واقفة تحملق في الصورة. الصفارة سقطت من فمها ورقدت فوق صدرها الذي يعلو ويهبط. أصابعها تتحسس النقوش فوق القرص الذهبي. سطحه ناعم كالحرير. حروف اسمها الثلاثي محفورة، وتعرجات بارزة خشنة الملمس، وصوت المدير في أذنيها يدوي: «وسام الشرف لأدائها الواجب وقدرتها على إسعاد الآخرين».
بطن يدها مبلل بالعرق. عيناهما تدوران فوق الجدران سوداء مشققة. السقف أجرب سقط منه طلاء في بعض الأجزاء. رسمت الأجزاء الساقطة صورة رأس له قرنان ملتويان إلى الأمام. لمبة كهربية صفراء تتدلي من سلك طويل أصفر. ماتت فوقه ذبابة سوداء. تتشبث بالسلك الكهربي لا تريد السقوط.
مدت يدها المبللة بالعرق خارج النافذة. عروق بارزة زرقاء تحت الجلد المكرمش. تشبه يد جدتها. صوتها يهمس كالفحيح: قادرة على إسعاد الآخرين وعاجزة عن إسعاد نفسها؟ صدرها يعلو ويهبط في أنفاس متلاحقة تلهث وهي واقفة كأنما تجري، من وراء الباب المغلق تسمع الصوت. شهقة منقطعة، أو نهنهة. تنهيدة طويلة ممدودة بامتداد الليل. - يا يا يا يا يا نر نر نرجس!
يسري الصوت في أذنيها كصوت أمها يناديها، أو جدتها الميتة، أو امرأة أخرى من القريبات أو الجارات أو زميلات المدرسة. يصمت الليل وينقل الهواء النداء عبر المساحات السوداء الممدودة. كالناي المنفرد الحزين، وهي راقدة في سريرها متكورة كالجنين. تغطي نفسها باللحاف القطني، من الرأس إلى القدم. تخشى أن تطل برأسها من تحت الغطاء. فهو واقف وراء الشماعة. طويل عريض يمسك ضلفة الباب. يرتدي جلباب جدها الميت، وطربوش أبيها الأحمر. رأسه كبير مربع كرأس المدير. عنقه طويلة تلتوي إلى أعلى كالديك الرومي. في يده عصا الشيخ بسيوني. تتلوى في الهواء كالثعبان. يتنكر في ثياب العرس. بدلة سوداء «سموكنج»، وربطة عنق معقودة تحت ذقنه على شكل فيونكة، «بابيون»، بين شفتيه «البايب» أو غليون أسود، يلتوي إلى الأمام كقرن أبيس أو زلومة الفيل.
كانت تعرف أنه ليس إلا روحا من الجن، وهي تؤمن بوجود الجان، ورد ذكره في الكتاب، وهو يختفي إذا أضاءت اللمبة الكهرباء. تخشى أن تخرج يدها من تحت اللحاف لتضغط على الزر، ولا يمكن أن تنهض إلى المرحاض أو بيت الأدب. فهو لا يستقر إلا في ذلك المكان. تحبس البول في جسدها طوال الليل. عقلها الباطن يقظ ولا يمكن أن تبلل الفراش وإن غابت في النوم.
في الصباح ترتدي مريلة المدرسة. ينام عقلها الباطن وهي تمشي، وعقلها الظاهر ينفصل عن جسمها. حقيبة الكراريس تحت إبطها. قدماها داخل حذاء من الجلد الأسود، تربطه بحزام وزرار أبيض، ينزلق من الفتحة وهي تمشي. بطن يدها مبلل بالعرق. تخشى أن تفتح أصابعها، وتخشى أن تفتح ساقيها أكثر مما يجب. بينها وبين جسمها حاجز كاللوح الزجاجي، والناس حين يرونها سائرة في الطريق يتوقفون. ينظرون إليها كأنما من خلال الزجاج. تراهم يبحلقون نحوها بعيون ضيقة نصف مغمضة. تغطيها طبقة من الماء، والعالم كله يموج من وراء الماء كأنما هو غير حقيقي، وهي تحمل جسما غير حقيقي تحاول أن تخفيه عن الأعين.
لكن الأعين قادرة على اختراق الزجاج. ترقب كل حركة يقوم بها أي عضو، محبوس داخل اللحم، نحيف وشفاف كالزجاج. يسمح بمرور الضوء دون الهواء. تمد عنقها إلى أعلى بحركة يظنها الناس كبرياء، وهي حالة من الاختناق. تحاول أن تختلس نسمة هواء.
كان الطريق إلى المدرسة طويلا، وهي تمشي بجسمها النحيف الطويل. تخشى أن تفرد قامتها فتصبح أطول من الرجال. تطأ أرض الوطن بقدمين خفيفتين، تخشى أن تدوس فوق الوطن بأكثر مما يفرضه حب الوطن. حول عنقها سلسلة تتدلى منها صورة الملك أو الرئيس أو ناظر المدرسة. أو مجرد حروف منقوشة بالخط الكوفي باسم «الله». تهتز الصورة فوق نهديها وهي تمشي. تنحني بجسمها إلى الأمام كأنما تبغي الفرار. ذراعاها تتحركان بجوار جسمها إلى الأمام والخلف. طرف إصبعها يلامس ردفها من الجانب. تريد أن تختفي قبل أن يراها أحد، وإذا ما رآها أحد هزت رأسها بحركات متتالية، كأنما تعتذر عن وجودها في الكون. تبتسم خجلا من هذا الوجود المفروض عليها، وهذا الجسم الذي لا بد أن يكون غير مرئي. أو مجرد روح بلا لحم. يتحرك في الطريق غير قابل للمس.
كانت تريد أن تمشي. ترى الآخرين ولا أحد يراها. تحلق في السماء وترى الله دون أن يراها. لم يكن لأحد من البشر أن يرى الله وجها لوجه، هكذا قال أبوها. تجرأ واحد من الرسل لعله سيدنا موسى أو سيدنا إبراهيم، ونظر إلى الله. صعقه الضوء كالكهرباء، وخر إلى الأرض صريعا. أسنانه تصطك بالحمى.
أرادت أن ترى الله دون أن تصعق، ودون أن تصطك أسنانها، وأن تسمع صوته بدلا من صوت إبليس. وكان إبليس يوسوس لها بالليل، تخفي رأسها تحت اللحاف، تضغط الوسادة فوق رأسها. تقرأ آية الكرسي. تستنجد بالله أن ينقذها، لكن الله كان يتركها وحدها لإبليس. يسري صوته في أذنيها طوال الليل. ممدودا بامتداد الظلمة. يهمس بصوت ناعم كصوت أمها. يمشي في عروقها دافئا كالدم، ولا شيء ينقذها من إبليس إلا النوم.
অজানা পৃষ্ঠা