ومن يدري لعل الحرمان أن يكون قد كتب عليه في حياته الدنيا، وفي حياته الآخرة، وإذن ففيم خلق؟ ولم قذفت به الأقدار في هذا العالم البغيض الذي لا تحلو فيه يقظة ولا نوم، ولكنه يرى امرأة نصفا ليست بالجميلة الرائعة، ولا الذميمة التي تنصرف عنها الأبصار، ولكنها شيء بين ذلك. في وجهها الحازم ما يدعو إلى الحب، وفيه ما يحمل على الإكبار، وفيه إشراق غريب يشيع في القلب رقة، وفي النفس عطفا وميلا إلى الحنان، وهذه المرأة قائمة مكانها لا تتحول عنه، ولا تظهر ميلا إلى التحول عنه، وقد أخذ الفتى يدنو منها شيئا، فلم تنفر منه ولم تغب عنه، وإنما أقامت مكانها هادئة يفيض من وجهها هذا البشر الحازم، وهذا الحنان الذي يملأ القلب طمأنينة ورضى، وهي تشير إلى الفتى في ظرف وعطف أن أقبل، كأنها شهدت ما لقي من أولئك الجواري الأربع فرقت له، وأشفقت عليه، وأحبت أن تسليه وتواسيه، ولكن الفتى يعرض عنها إعراضا، ويصد عنها صدودا، ويوليها ظهره، وهو يقول: هيهات لن يكون بيننا لقاء، فلست أحب العطف، ولا أريد الرفق، وليس أبغض إلي من هذا الأمل الذي لا أجد في تحقيقه الجهد المجهد، ولا في الظفر به العناء الثقيل.
وكأن إعراضه هذا قد ملأ قلبه غيظا فرده إلى اليقظة على أبغض ما كان يحب أن يستيقظ عليه من الحال. على هذا الأمل القريب الذي لا رغبة له فيه، ولا حاجة به إليه، بعد أن أفلتت منه هذه الآمال العسيرة التي كان عليها حريصا وبها كلفا، وقد أنفق نهاره مفكرا في هذا الحلم الغريب، مستحضرا هذه الصورة الجميلة التي تراءت له ثم نأت عنه، منكرا حظه من النوم واليقظة جميعا.
ويقبل أبوه مع المساء فإذا رآه في هذا الذهول، لامه أشد اللوم، وعنفه وأنبه أعظم التأنيب، وحثه على أن يترك حياة الأدب هذه، التي ترقى بأصحابها إلى السحاب، ثم لا تبلغهم من آمالهم شيئا، ورغبة في أن يسير سيرة أسرته فيعمل في التجارة المريحة التي لا تضيع على صاحبها وقتا ولا جهدا ولا تفكيرا.
ولكن الفتى يمتنع عن أبيه أشد الامتناع، ويظهر له الزهد في التجارة والازدراء لحياة التجار، ثم ينفق ليلة ساهرة لا يذوق فيها النوم، ولا يصاحب فيها إلا القلم والقرطاس، حتى أشرقت الأرض بنور ربها، وفرغت بغداد من مواكب الأمراء والوزراء والكتاب الذين استقروا في دواوينهم حين ارتفع الضحى. أقبل الفتى يسعى إلى ديوان الحسن بن سهل الوزير، فما زال يتلطف حتى أدخل عليه فأنشده مدحة أعجبته، وانصرف عنه بجائزة أرضته، وراح على أبيه آخر النهار بعشرة آلاف درهم نثرها بين يديه. قال الشيخ مبهورا مسحورا: لا ألومك بعد اليوم في ازدراء التجارة، والإقبال على حياة الأدباء.
ومنذ ذلك اليوم اتصلت أسباب الفتى محمد بن عبد الملك الزيات بأسباب الوزراء والكتاب، وما زال يرقى من درجة إلى درجة، ويسمو من منزلة إلى منزلة، حتى نظر ذات يوم، فإذا هو قد فوض الخليفة إليه أمور الدولة كلها؛ فله الأمر والنهي، وإليه المنح والمنع، وفي يده سلطان السيف والقلم جميعا، وإذا ثروته لا تحصى، ولا يقاس إليها إلا ثروة أمير المؤمنين، ومن يدري لعله أن يكون أقدر على ابتذال المال والتصرف فيه من أمير المؤمنين، فهو يأمر وينهى في المال غير مراجع ولا مدافع، وأمير المؤمنين لا يعطى ولا يمنع إلا عن رأيه ومشورته.
وقد فرغ من غذائه ذات يوم، وآوى إلى مضجعه يلتمس شيئا من راحة، فيغفي إغفاءة قصيرة، وإذا هو يرى نفسه في تلك الجنة الفسيحة ذات الأرجاء البعيدة، وجارية حسناء ترمقه من بعيد، وهو يدنو منها، محبا لها، معجبا بها، حتى إذا استطاع أن ينظر في وجهها من قريب، لم ينكر هذه الصورة، وإنما ذكر كأن عهده بها كان قريبا! فهي إذن تلك الفتاة الحسناء التي رآها في حلمه ذاك، والتي كانت تظهر عليها آيات الغنى والسعة، وهي تبسم له، وتدنو منه، وتقول له في صوتها العذب، ولفظها الحلو: ادن أبا جعفر فقد أذن لنا الآن أن نلتقي، قال أبو جعفر: جعلت فداك من تكونين؟ قالت في صوتها العذب، ولفظها الحلو: أنا الثروة .
وأفاق أبو جعفر باسم الثغر راضي النفس يعجب من حلمه القديم، وحلمه الجديد، ولكنه كان صاحب جد وحزم وفلسفة، فلم يلبث أن هز رأسه، وتلا قول الله عز وجل:
قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ، ومضى أبو جعفر يصرف أمور الدولة كما يهوى، وعلى ما يحب أمير المؤمنين، لا يسأل عن العدل أين هو! ولا يسأل عن الظلم أين هو، وإنما يسأل عن رضى نفسه، ورضى أمير المؤمنين، يسلك إليهما الطرق المستقيمة والمعوجة، ويركب إليهما الحزن والسهل، ويضحي في سبيلهما بالماضي والمستقبل، فيجفو الصديق، ويلقاهم بالغلظة حينا، والازدراء حينا آخر، لا يعرف لهم ودا، ولا يرعى لهم عهدا، حتى يقول له صديقه القديم إبراهيم بن العباس الصولي:
وكنت أذم إليك الزمان
فأصبحت منك أذم الزمانا
অজানা পৃষ্ঠা